10 ديسمبر 2009

عن الشاي الذي لا أشربه، إذ أنني أفضل القازوزة

عن الشاي الذي لا أشربه، إذ أنني أفضل القازوزة

هذه كذبة. وما يلي ليس سوى تيّار متدفّق من الأكاذيب أطلقها من أجل المتعة، وحدها المتعة.

حسناً. ثبّتّ البرنيطة على رأسي بإحكام، حتى لا تطير به الرياح الخفيفة، ثم واصلت السير مشياً على الأقدام: ركوب الأوتوبيس غير محبّذ في هذا الوقت، ولم أكن أحفظ جدول تحرّكاته على كل حال. أما الفيسبة فليست سوى حلم من الأحلام.

بغتة التمعت في ذهني فكرة هابطة:

زجاجة بورت تتوسّط الغرفة، تدور وتندلع بعطايا ربانية لا تربط الى النهار بصلة.

وهذا ما لن يتوقّعه ليندزي أبداً، فالمؤكّد أن باله مشغول بأفكار أخرى، أقل طموحاً، وأقل .. هبوطاً. يقبع ليندزي الآن في شقّته التي تبدو وكأنها كانت تعيش حياتها السابقة غرفة من غرف فندق رخيص على منحنى الطريق. شقة لا يمكن تمييزها بين عشرات الشقق المتشابهة، مصطفّة بانتظام بارد على عمارة ذات طابقين. الغرض، مشهد لا يبعث على الأفكار الطموحة، ولا الهابطة.

لهذا يجهل ليندزي أن البورت – ورغم أنها ليست سوى لعبة ممتعة – إلا أنها لها قوانينها الخاصة التي يجب مراعاتها، وأخذها بعين الحكمة والاعتبار، قوانين توارثتها الأجيال أباً عن جدّ منذ أن قدمت الشركات البريطانية الى البرتغال لأوّل مرة، فعاثوا في الأرض فساداً واغتصبوا السيدات ولاطوا في الرجال إلا أنهم ارتاحوا في الآخر الى كنز فريد ذي لون أحمر داكن.

فإنك اذا حالفك الحظ ووجدت نفسك في سهرة تتوسطها البورت، يجب أن تعلم ما يلي.

أولا، اوعى يا شاطر تصبّ لنفسك كأساً من البورت. من اللازم أن تتم هذه العملية – طبقاً للأصول – بالغمز واللمز وأنت تقول:

" تخيّلوا أيها الأحبّاء أني كنت في يوم من الأيام مدعوّ الى حفلة حضرها أهل الذوق والأخلاق، إلا أنه سرعان ما سقط عنهم الحجاب، وأميط عنهم اللثام، اذ ما من أحد تفضّل وصبّ لي كأساً من تلك البورت العصماء"

ثم اعلم أن البورت لا تُشرب إلا والليل معتكر أو به رذاذ خفيف، وفي نهاية السهرة يعلن من بمقامة المضيف: " نخب الملكة عاشت وتحيا !" فتأخذه نوبة من الحماس ويندفع قافزاً من الشبّاك.

إنا لله وإنا اليه راجعون.

بالطبع، يجهل ليندزي كل هذا، إلا أنه يجب أن يتعلّم وإلا ضاع. لذلك اشتريت الزجاجة المنشودة، وقدّمتها اليه عند وصولي الى مسكنه.

"امسك" قلت.

"يا سلام" قال، "لكن اتفضّل انت الأول"

رددت بصرامة: "لأ. مشربش البورت. إني أشرب القازوزة فقط"

تعرفت على المدعوّة دينا، بتشتغل في صحيفة الحوادث. قالتلي انها عايشة لوحدها، بس ايه، عندها كلب قد كده (وجعلت ترقص يمنة ويسرة مما يدل على حجم هذا الكلب، في ما أظن).

حدث ذات يوم أني اجتاحتني وعكة صحية، فالتزمت الفراش. قالت دينا: اشرب زنجبيل، هيخليك زي الفل. حاضر يا ستي، يا ست الكل، جعلتُ أنا فداك.

إلا أنني شربت القازوزة.

قال لي فتحي أن أباه مكلّف بمهمّة فريدة: النزول الى القاهرة الكبرى والإتيان بكلية مثلّجة، ثم سيعود بها الى الاسكندرية. وما أدراك ما الكلية. إنها تركيبة بشعة من الخلايا والغدد، تفرز ما تفرز من منكور ومكروه وسوائل مطهّرة.

لكنني لا أشرب سوائل الكلية.

قام السيّد خايمي نولارت وتفرّس في وجهي:

" إني لا أفهمك. لقد دنت الساعة منتصف الليل، وها أنت لا تطلب سوى كباية ساخنة من الشاي. بصّ يابني. لا يأتي هنا إلا نوعان: النوع الذي يشرب الكونياك، والنوع الذي يشرب الموز باللبن. فقل لي من فضلك: أيهما أنت."

قمت أنا الآخر، فقلت ملوّحاً بيدي بطريقة بهلوانية:

"قطيعة! مشربش غير الشاي ومن أوهمك بغير ذلك فإنه واهم واهم واهم.."

29 نوفمبر 2009

كوكتيل المنفلوطي

كوكتيل المنفلوطي

أنزل مترو الأنفاق وكل طموحي أن أتجه شرقاً.

أركب الخط الأخضر قاصداً الخط البرتقالي.

" أيها السادة الركّاب، لقد تأخرت القاطرة نظراً لأعمال فرق المطافئ المدنية"

أركب الخط الأزرق قاصداً الخط الأحمر، وذلك من أجل الوصول الى البرتقالي من ناحية أخرى.

" أيها السادة الركاب، لقد تأخرت القاطرة نظراً لأعمال فرق المطافئ المدنية"

أقف محملقاً في النفق الفارغ، وقد بدأتْ تتبلور في ذهني الخطوط الواضحة لأزمة وجودية كبرى. كل الطرق أمامي مسدودة، أمّا فكرة التراجع فمن رابع المستحيلات.

طب والعمل ياخوانا!

في هذه الظروف، في هذه الساعة المتأخرة من الليل، حين تمتزج حمى الغضب بفوران الثورة، وتزخر أنهار الدم من عروقها الزرقاء، ما من حلّ سوى كوكتيل المنفلوطي.

ما هو كوكتيل المنفلوطي، يا ترى؟ - إنه سلاح ولا كوكتيل مولوتوف ذات نفسه! وله قصة شرحها يطول.

يُحكى أيها الناس أن السيد مصطفى لطفي المنفلوطي كان أيام العزّ " يترجم " الى اللغة العربية روايات وقصصاً لبعض كبار مؤلّفي أوروبا. وكان السيّد المنفلوطي نفسه يقول عن هذه الترجمات:

" إن عملية الترجمة، في المعتاد، أقرب ما يكون الى الرجم، أي رجم الشيطان. ومن هذا المنطلق، تكون ترجمة نصّ ما عبارة عن الحدّ من القوى الشيطانية، وحصرها بل وتقييدها في صوت واحد هو صوت الواحد الأحد. لكن ما أقوم به أنا مختلف كل الاختلاف عن ذلك. اذ أننا باعتقادي لن نوفَّق في قراءة الآخر إلا اذا أدركنا أنه ليس آخر واحد بل آخرون متعدّدون ..."

وهنا ينقطع النصّ، فيبدو أن السيد المنفلوطي عندئذ قد اقتحمت منزله قوات الأمن، ظنّاً منهم أنه كافر حقير يعبد إبليس دون الإله العلي العظيم – الذي تجسّد آنذاك في الملك فؤاد – فأحرقوا ما بحوزته من مؤلّفات ولم تتبقَّ سوى هذه الورقة بكلماتها الواعدة المتشظية..

لكن المنفلوطي بشطارته قد احتال على الدهر الغادر وتمكّن من توصيل بدعته الأهم الينا، فإن الواحد منا اذا قلب الورقة المذكورة على ظهرها سيجد مخربشات ملتوية تحتوي على " التوصيفات الصحيحة والتعليمات المريحة في ركوب مركب النوتي وإعداد كوكتيل المنفلوطي ".

وقد ابتكر هذا الكوكتيل، في نظري، كي يصدّ لما كان يتولّد وقتها من أسياخ غليظة وقوالب حديدية، تلوّت ثم تجمّدت فتجلّى من خلالها بناء هائل ألا وهو الرواية العربية الحديثة. فكان هيكل، وكان محفوظ. ثم ما تلاهما من روائيين جدد. لكن بقي القلب واحداً: الرواية المتّحدة، المتكاملة، ملكة الخطاب الحداثي المتوّج. نظام معرفي اونتولوجي قائم بنفسه. بل إنها الاونتولوجية ذاتها: لا تُلفظ كلمة، لا يبدر صوت، لا يحدث حادث ولا تقع واقعة، إلا وننسبها في الآخر الى صفحات الرواية المعدودة، المنشورة، التي يكسوها غلاف ذو اسم وعنوان وحقوق فكرية.

وقد أبصر المنفلوطي بفطنته الفريدة الى أن هذا البناء المتين، ورغم هجومات المفككين والقرّاء الأحرار، إلا أنه قائم لا محال، غير آيل للسقوط، ولن ينهار ولو انقضّ عليه ألف جرّافة. فإن الرواية قد وجدت من يحميها، ويسبّح لها، في دهاليز جامعات العالم المتطوّر، وغير المتطوّر.

في هذه الظروف، في هذا الساعة المتأخّرة من الليل، حين تمتزج حمى الغضب بفوران الثورة، وتزخر أنهار الدم من عروقها الزرقاء، ما من حلّ سوى كوكتيل المنفلوطي.

دسست يدي في جيب المعطف الثقيل، فأخرجت زجاجة ذات إشعاع أحمر مبين.

رميتها بكامل قواي على السقف.

انفجرت بغتة عدّة ثقوب صغيرة، توسّعت فتمازجت، انبثق منها النور. ومن كل ثقب طوق نجاة: هذا حصان، وهذه دابّة البرّاق، أما هذا فأسانسير ألماني أصيل. وغيرهم. باختصار: أمامي الآن أكثر من وسيلة نقل.

وبينما أنا أقف متردّداً، متريّثاً فيما عساني أركب والى أين أتجه، إذ انقضّت عليّ مفرزة من الشرطة فطرحوني على الأرض وأخذوا يبولون عليّ وعلى بقايا نيران الكوكتيل.

31 أكتوبر 2009

عودة على ذي بدء

عودة على ذي بدء

قد يتهيّأ للزائر أن الحرّ الفقير مولع، متيّم، بكتاب من الكتب بعنوان "رامة والتنين " للمؤلّف الكبير إدوار الخرّاط. ذلك لأنه قد يلمح الى بعض ما أشرت اليه في وقت سابق بمناسبة صدور قراري التنظيمي الهامّ، والذي مفاده كان الإعلان عن إلصاق صورة التنّين على بنديرة هذه المدوّنة المتواضعة.

وصورة الغلاف، بالكامل، كما يلي:

ولن يخطئ الزائر في ظنّه هذا، الا أنه ظنٌّ يفتقر الى شيء من المعرفة والحقّ. فلا شك في أن هناك ما يشدّني الى هذا الكتاب – كأنما طاقة خرافية ملؤها الرعد والبرق واليود.

لكن ما خفي كان أعظم.

اذ ليس ما يربطني بهذه الرواية علاقة سطحية من النوع "أفضل كتاب قرأته في حياتي" أو ما شابه، إنما هناك ما هو أعمق من ذلك، وأكثر سطحية في آن. فالأطرف، والأنكر في الأمر كله، أنني لم أقرأ هذا الكتاب - ولا في يوم من الأيام ولا في وهم من الأوهام.

لذلك قد يبدو غريباً، وربما مزعجاً، أن هذا الكتاب إنما يلعب دوراً كبيراً في صيرورة الكون العظمى، وديمومة الأحداث الحسنى. ولهذا القول تفصيل.

أذكر أولا أنني في يوم من الأيام قصدت صاحبة الجلالة، خادمة اليمنين السعيدين، صديقة ما صغر ولطف من الحيوانات البرية والمخلوقات البحرية، ملكة سبأ المعروفة ببلقيس بنت فوزية بنت أم هاشم آل الثاني المكتوم. وذلك بمناسبة أول إبحاري في الروايات العربية المعاصرة. فلقد جئت، باختصار، من أجل طلب رأيها في الأمر، عسى أن أهتدي الى شيء من الأدب المفيد.

قالت صاحبة الجلالة: أوصّيك بروايات ثلاث عليك مطالعتها في بحر الصيف المقبل..

أما الرواية الأولى التي وصّتني بها صاحبة الجلالة، والتي تعبّر بلا شك عن ميلها العظيم الى الذوق الكلاسيكي بشكل عام، والطعم المحافظ التقليدي منه بشكل خاص، فكانت " مرايا " للمعلّم الأوّل نجيب محفوظ.

أما الثانية، فكانت "موسم الهجرة الى الشمال" للكاتب البارز الطيب صالح.

قالت صاحبة الجلالة: ستعجبك هاتان الروايتان، فإنها تناسب مستواك اللغوي قبل كل شيء. أما الرواية الثالثة...

وهنا توقفت عن الكلام فجأة، ثم استطردت قائلة:

لا بلاش..

قلت: قولي يا ستي ربنا يخليك.

قالت: ممممم.. طيب. اذن، هناك روائي مصري من الطراز الأول، يسمّيه البعض إدوار الخرّاط. تفوح منه روائح راقية، كما أنه مناضل سابق معروف قام ضد الإنجليز المحتلين. ولقد صدرت له رواية بعنوان "رامة والتنين " وهي من بين ما قرأت أيام شبابي الأولى في بساتين القاهرة الشهيرة. فيها ما هو شيّق، وفيها ما هو .. مبهم. خفت أسأل الأهل عن بعض الجمل الصعبة.. رواية فزيعة كده. تقراها انت لما تكبر!

خضّتني الجملة الأخيرة.

- لكني مستعدّ الآن أيتها الشيخة! (كدت أن أصرخ)

أدارت وجهها الى أعلى بشيء من الاسنتكار، نافثة تجاهي سحابة استمدّتها بقوّة من سيجارتها الأنيقة الطويلة. كالتي تقول: اوفت.

هكذا ودّعتني الملكة سبأ، محذّرة إياي، ملفتة انتباهي الى شرّ ما يربض في هذا الكتاب، فكان الممنوع مرغوباً.


لديّ نسختان من الرواية إياها، الأولى الصادرة عن دار الآداب البيروتية، جلبتها بشيء من الاستشراقية من المكتبة الألفبائية الواقعة قبالة الجامعة الأميركية في شارع بليس.

حدعش دولار!

خدي يا مدام!

ثانك يو.

تمت عملية الاقنتاء.

أمّا النسخة الثانية، الصادرة عن دار المستقبل المصرية بمطابع القاهرة والفجالة، فلقد جلبتها بقدر أكبر من الاستشراقية من مكتبة دار المستقبل الواقعة في أعالي شارع صفية زغلول بالإسكندرية. إن الزائر اليها ليجد فيها كومات من الكتب، بعضها منتاثرة وبعضها متناسقة، تطغى عليها مؤلّفات المشاكسين القدامى أمثال: الدكتور فرج فودة. والدكتور سلامة موسى. والدكتورة نوال السعداوي. ثم الأستاذ صنع الله ابراهيم، فضلاً عن الساحر الكبير ذات نفسه: إدوار الخرّاط. وغيرهم.

دخلت ذات يوم باحثاً عن بعض ما فاتني من رونق النضالات المكسوّة بالغبار.

راح فين؟"

دهوه"

كتب قديمة؟"

آه شكلها كدا"

التفتّ الى مصدر الهمسات الخفية، فوجدتها صادرة عن شابين عشرينيين متداخلين في بعضهما البعض. خرجت من المكتبة بعض الاطلاع على بعض الأغلفة الخرّاطية، التي يرسم أغلبها الفنان المعروف عدلي رزق الله. عبرت الشارع بخطوات متّئدة، من دون أن أصطدم بسيارة من السيارات.

وأنا أمشي الهويدى، مواصلاً مشواري، اذ انتبهت الى من يتّبعني. توقفت فجأة كي أتحقق في الأمر.

“...ممكن نتعرّف؟" قال.

فيه حد حاشك؟" قلت.

تعارفنا على بعضنا البعض، فعرفت أن هذا الرجل اسمه أحمد، وهذا الرجل اسمه إسلام. عندما تقابلنا بعد ذلك بأسبوع، على كورنيش البحر بحيّ لوران، أصبح أحمد اسمه إسلام وإسلام أحمد. إلا أني لم أبالي كثيراً بذلك. فما الأسماء إلا إشارات شكلية تميّز هذا عن ذاك، تم الاتفاق عليها في ظروف اجتماعية معيّنة ما أسهل تفكيكها وفضحها. إنه نظام مبني على الاختلاف، أي التمييز. ومنه المعاني الكبرى.

تقصد ايه بالظبط؟" قال أحمد-إسلام. وقد تركنا إسلام-أحمد.

قصدي مش عارف. يعني ممكن لو تحب نروح السيما، ولا نروح حتة تانية مش فارفة معايا.”

لا مش قصدي كده. قصدي يعني، عندك شقة ولا نازل في فندق؟"

عندي شقة، عندي فندق، عندي بحر. والبحر أمامكم والعدو خلفكم. أما التبن والشعير فاعطيه لحلفائكم.”

والله مش فاهم حاجة.”

عندئذ، أدار رأسه الى أعلى بشيء من الاستنكار، فنفث تجاهي سحابة فضية استمدّها بقوّة من سيجارته الأنيقة الطويلة.


عدت القهقرى الى مكتبة دار المستقبل الواقعة في أعالي شارع صفية زغلول الموقّر، وخبأت نفسي في ركن مظلم من المحلّ محاولاً الاتصال بصاحبة الجلالة بلقيس.

الرقم الذي طلبته غير متاح موقتاً. يرجى إعادة المحاولة فيما بعد.”

اللعنة. يبدو أنها تسهر سهرة ملعلعة مع الملك سليمان، الملمّ بلغة الحيوانات كافة.

الرقم الذي طلبته غير موجود في الخدمة..”

حسبي الله ونعم الوكيل. طرحت الموبيل على الأرض ودهسته عدّة مرّات بشبشبي المهترئ. فيما بعد، أهديت نسخة من الكتاب الى صاحبي أحمد، فقال لي بعده "إدوار خرا" و"يطنب" وما شابهه من نقد لاذع للمؤلّف. لكنني أصررت عليه أن يحتفظ به، اذ أنه يعتبر من الوصايا الثلاث، المكرّسة من قبل صاحبة الجلالة ذات نفسها.


24 أكتوبر 2009

يا دولة الريّس

يا دولة الريّس

قال الجاحظ نقلاً عن الزهري: إن سمعتَ أدباً فاكتبه ولو في حائط.
ولعلّه أضاف، لولا أنه توفّي الى خالقه من زمان مضى وانقضى: اذا ما تجوّلت في حواري أوستن العريضة، فقم بمطالعة حيطانها الناطقة.

سمعاً وطاعة يا معلّم.
أو قد نقول: من عيني دي قبل عيني دي. ثم بالعينين كلتاهما.






















" يا سيّدي الرئيس: ماذا عن الشواذّ ؟ "

اعرفوا أوّلا أن المدن الأمريكية ليس لها حواري، وبرغم مما شاع عن مدينة شيكاغو خاصة فإنها تتمتّع بشوارع عريضة منفتحة زي الفلّ، شوارع مفشوخة للتنزّه والتسوّق، لا تنسدّ ولو أقيم ألف حاجز. وهذا الواقع الهندسي كما أظن، يميّز المدن الأمريكية الكبرى عن أخواتها الحضارية في بقية أراضي المعمورة ككل. وهو الواقع الذي يصدّ للقلقلات والزعزعات على أنواعها، ويحافظ على استقرار البلد على المدى البعيد. هذا لما يكون للشوارع من فراغات يصعب سدّها، وفتحات يتعذّر عرقلتها. فإنك اذا أردت تحقيق هدف من أهدافك الثورية، وقصدت هزهزة ركن من أركان البورجوازية، اذن عليك القيام بما يلي:

ألفاً) الإمساك بكتابك الأحمر المفضّل (هنا يصعب الاختيار بين هذا وهذا)
باءً) النزول الى الشوارع
جيماً) تعطيل السير

والمرء اذا اتّبع هذه الخطوات بجدّية سيصل الى لحظة يدرك فيها استحالة تنفيذ (جيم). وهذا، بكل بساطة، يرجع الى الهندسة المدنية الأمريكية التي تميل أكثر ما تميل الى الطول والعرض، دون التقشّف والاقتصاد. فاذا كنت تقرأ هذه السطور وانت في شيكاغو، سيحدث ما يلي:

أولاً) ستمسك بكتابك الأحمر المفضّل (بسيطة وفهمناها)
ثانياً) ستنزل الى جادة ميشيغان المضيئة
ثالثاً) ستدخل محلّاً من محلّاتك المفضّلة، وتشتري بعضاً مما يحلو لك
رابعاً) ستركن عند أول ستاربكس تصادفك، ثم تفتح كتابك الأحمر وبذلك تلمّ بتفاصيل الثورة الاشتراكية، بالإضافة الى الشيء الكثير من دقائق اللغة العربية

وبذلك تكتسب شيئاً من الثقافة، بينما تشعر بتأنيب الضمير لانحرافك عن النشاط الثوري المباشر. ثم تلعن الهندسة التي أجهضت الإمكانيات اللانهائية.

لكنك لست في شيكاغو، فاحمد ربك على نعمته. وحتى لو كنت في شيكاغو، وربما تكون كذلك، فهذا ليس قضيتنا اليوم للأسف الشديد، إنما قلنا أوستن وحيطانها. ولهذا الكلام إفاضة.

فإن المرء اذا ما قام وتجوّل في شوارع أوستن العريضة - التي اتفقنا أنها ليست بحواري - فإنه قد يلفي نفسه منشغلاً ببعض ما ازدانت به حيطانها. ومنها ما تكلّس جبصه، فتبقّع وجهه وتسكّرت بعض ملامحه، إلا أنه ما زال حاضراً، متقدّماً في رونق الأصالة المجروحة، المهدّدة. ولأن مدينة أوستن هي مدينة الهيبستر فلن تجد مثل هذا الشعر الذي يبزّ عواطف وحنين، إنما ستجد ألوان العنف والحقد قد لُطّخت هنا وهناك، وقدراً كبيراً من مخربشات الدهان الرخيص، غير المرخّص. الكثير ينزعجون من الهيبستر، فيُروى على سبيل المثال أنهم كانوا في الأصل عبارة عن ثوريين حقيقيين، همّهم الأول والأخير الهجوم على الشللية والنخبوية أينما وجدوها. إلا أنهم مع مرور الوقت، وتكلّس الأحوال، صاروا جزءاً من المجتمع الأمريكي المعتاد، اعتزلوا وتعصّبوا فاستحالوا الى طائفة من الطوائف المعروفة.

إلا أن الهيبستر ليسوا موضوعنا اليوم، للأسف الشديد.

ولا أعرف، على كل حال، إن كان واحد منهم من رسم الصورة أعلاه، بل أشك في ذلك، اذ أنهم كثيراً ما يقال عنهم أنهم يهتمّون بالحقد من دون التغيير، والمزيكة الصارخة دون السياسة ومصالح الوطن العليا.

اذن، فبينما أنت مطّلع على اللوحة المخربشة إياها، تشعر بأن هناك من يقترب منك من وراء. بل إنك لتشمّ رائحته قبل أن يتبيّن شكله، وعندئذ ستدرك أن هذه الجثّة العملاقة، المتلصّصة الفوّاحة، ألا وهو داوود الوحش، أحد سكان هذا الشارع المعروفين. لكن يجب الانتباه. اذ داوود الوحش هذا، الذي يكون بلا شك من بين الوجوه الصباحية المعتادة - التي تصادفك عند ذهابك اليومي الى الجامعة - ليس وحشاً حقيقياً، إنما هذا مجرّد لقب اختاره داوود لنفسه. فإن داوود الوحش، في الواقع، إنسان لطيف، يسرّ أكثر مما يضرّ، كومة مرحة من اللحم والدم، دائماً ما يكتسي ذاك القميص الملوّن الفاقع، وفي يده لافتة كتب عليها، مثلاً:

" إن الله هو المحبّة، إلا إن كنت من غير المسيحيين "
أو
" دع عنك لومي فإن اللوم إغراء "
أو
" ابتسِمْ ، فإنه ينفع أكثر مما يضرّ "

ونحو ذلك. وأنا أذكر داوود هنا لما حدث بيني وبينه منذ أسابيع قليلة. فإني لأزعم أن داوود الوحش - وعلى الرغم من مروري أمامه ما يزيد عن مرّتين كل يوم منذ حوالي سنة - قد انتبه أخيراً الى وجودي أنا. فإنني بعد أن كنت منشغلا بتأمل الصورة أعلاه، التي تزدان بها احدى حيطان أوستن المتجبّسة، أخذت في مواصلة المشي على الرصيف ناحية الشمال. عندئذ، عندئذ فقط، لاحظت داوود ذات نفسه على مقربة مني، وهو جالس منجعص تحت شجرة بلوط. التفتّ اليه، وقد صدر منه الشيء القليل من الرطانة والهلضمة غير المفهومة. أجبتُ أنا بمثلها - وهذه لهجة أجيدها - وتبادلنا الابتسامات. ثم كمّلت مشواري.

يقال إن داوود يعاني من مرض نفسي ما، أظنّه الانفصام الذهني، وهو من شرّ ما قد يصيبك من داء. لكن المؤكد أن هذا مجرّد تصنيف ينقذ البورجوازيين من قلقهم والإحساس بالذنب. هذا البشر يذكّرني بصاحبي توماس، الذي قرّر ذات يوم أن يتعرّى تماماً من لبسه، فتجوّل متهرولاً في شوارع بلومينجتون - الواقعة في سهول ولاية انديانا. ولماذا يحتاج توماس الى اللبس، قيل، وهو النبي آدم عليه الصلاة والسلام، قد سكن الجنّة مع صديقته العارية هي الأخرى. لم يقبل ضباط المطافئ هذه الحكاية منه، فقبضوا عليه ورموه في السجن. الآن، توماس كثيراً ما يوصلني الى مكان ما وأنا في شيكاجو، يقودني في سيارته الى مطرح ما بدّه.

أدرك عند هذه النقطة أنني قد سهوت تماماً عن صورة أوباما وعلاقته بالشواذ جنسيا. كما أني قد سهوت أيضا عن المخربشات والفنون المتعلّقة بها في أراضي أوستن الوعرة، وغير الوعرة منها. فلهذه السيرة استئناف فيما بعد.

20 أكتوبر 2009

مدوّنون من أجل الغموضية الإرهابية (4)

مدوّنون من أجل الغموضية الإرهابية (4)

انحلال جماعة "مدونين من أجل الغموضية الإرهابية" وإماطة اللثام عن المشاركين المتورّطين

صدمة كونية عظمى تهزّ أركان المحروسة بأكملها

كفر الدوّار - وكالات أنباء:

فاجأ الزعيم الروحي لجماعة "مدونين من أجل الغموضية الإرهابية" شعوب العالم بإعلانه أمس الأول عن انحلال الجماعة المذكورة والكشف عن قائمة المتورطين فيها.

فلقد تم إلغاء الجماعة إثر صدور كلمات بسيطة من دريدا أطلقها بشكل عفوي قدام الصحافيين إذ قال:

" ما فيش حاجة اسمها مدونين من أجل الغموضية الإرهابية" وسكت.

ثم جعل يهرش أعلى قذالته وأخذ في الدوران حول المنصّة بحركات رقصية ملتوية تفوق كل وصف.

فارتبك مراسلنا وهو يسجل هذه التصريحات إلا أنه راجع ما قد كتبه في كراسته فوجده سليماً لا تشوبه شائبة.

وأوضحت جياتري سبيفاك، رئيسة فرع المستضعفين في الأرض الذين لا ينطقون المنتمي الى التنظيم الزائل، تصريحات الزعيم قائلة:

" نحن في الواقع مجرّد مجموعة من المدوّنين، لا نملك من الغموضية شيئاً. أما معرفتنا بالإرهابية فضيّقة عند أحسن الأحوال. وعلى الرغم من كثرة العبوات الناسفة التي زرعناها، وعدد الدالّات العائمة التي حفرناها في الطريق، فلا من غمض ولا من رهب. غموضية ايه وبتاع ايه؟ الناس مش لاقية حاجة تاكلها"

فانتبذت جياتري جانباً وبلعت ريقها، ثم خلعت جلدها الفضائي وعرفنا أنها هي - بل هو - إنما مجرّد مدوّن من المدوّنين، الذين ينطقون زي الفلّ.

لكن ما خفي كان أعظم..

19 أكتوبر 2009

مدوّنون من أجل الغموضية الإرهابية (3)

مدوّنون من أجل الغموضية الإرهابية (3)

تسلُّل الجواسيس الى مجالس التنظيم
تفكيكات متفرّقة تستهدف معاقل حزب أبي حسن
قوات الأمن تطارد الفلول

دريدا يشدّد: لا تسوية على شروط المرتزقة والخوارج

المجمّع الخامس - وكالات أنباء:

في الوقت الذي تحتشد فيه قوات الأمن جنودها من أجل محاصرة التنظيم المسمى (مدونون من أجل الغموضية الإرهابية)، بغية اجتثاث أعضائه المجهولين والقبض على زعيمه الروحي جاك دريدا حياً أو ميتاً، فإن التنظيم قد انتبه الى تسلل بعض عناصر الشرطة الى المجالس المباركة المفتوحة على عامة الناس ورعاعهم، فقام على الفور بإنشاء محاكم طارئة ذات طابع كوني من أجل غربلة الموالي من المعارض، والصادق من الخائن، ولقد حصل التنظيم على اعترافات مبينة تنسب الجواسيس الى حزب أبي حسن، المأجور من قبل السلطات الشرطجية.

وقد أعرب أيمانيول كانط، المتفذلك الرسمي للتنظيم، عن استيائه الواضح، قائلا:

" لكل شيء صفتان اثنتان لا ثالثة لهما: ثمنٌ ، وكرامةٌ. أما الثالثة فإنما هي الشيطانْ."

ولقد اعتبر متابعو الفكر الغموضي هذا القول تصريحاً جلياً مفاده كالتالي:

" كرامتنا قد سُلبت منا، وعرضنا قد سُحب من تحتنا، والذي أُخد بالقوة لا يُردّ إلا بالقوة."

ومن أجل تحقيق هذا الهدف، لقد عثر التنظيم على أبي حسن زعيم حزب العسس المرتزقة ذات نفسه، فبينما هو يهمّ بالهرب إذ انقضّ عليه المحقّقون فقيّدوا يديه بالحديد الصدئ وصلّبوه على كومة من العملة المهترئة، ثم خوزقوه بلذّة وبطء على مرأى من الكلاب الضالّة، ففتحوا مصرانه لأصناف الهوامّ والجرذان. وقد نجح المحققون في إنطاقه قبل نزول روحه الى جهنم، إذ قيل إنه نفى أي ربط بينه وبين جريمة اغتيال الرئيس الشهيد أنور السادات ورفقائه الأبرار، رغم شدة الحقد وقبح الأقوال بينهما في الآونة الأخيرة.

أما بقية الجواسيس فقد أعدموا عبرة لمن يعتبر.

ورزقنا عند ربنا لا غير.

17 أكتوبر 2009

تحديث - مدوّنون من أجل الغموضية الإرهابية

تحديث - مدوّنون من أجل الغموضية الإرهابية

ورد الآن، قبل الغد:

أيها الإخوة والأخوات، أينما كنتم فاختشوا واعوا،

أمّا بعد،

إن جماعتنا المباركة المظفّرة، جماعة الظلام والحقد والغذاء،
مدوّنون من أجل الغموضية الإرهابية،
تنشر هنا البيان التنظيمي الهام، من أجل دحض الإشاعات في مهدها، تفنيداً لما ورد في بعض صحف الجهلاء،
صحف الشكّ والرياء والخداع،

إننا اذن لنبلغ الجماهير العريضة، بعدم صحّة ما أتى من إدّعاءات البعض،
فنرفض رفضاً تامّاً الأخبار المتداولة في الساحة العامة،

التي مفادها كالتالي: لقد انضمّت الى حركة " مدوّنين من أجل الغموضية الإرهابية " خلية راديكالية يزعمها المدعوّ إميل عقرب،

اعلموا أيها الأخوات والإخوة أن هذا الخبر ليس سوى ضربا من الكذب والافتراء،

روّج له أولئك الذين بقلوبهم مرض وزيغ وسمّ،

فإن انضمام مثل هذا الشخص الى جماعتنا يعتبر من رابع المستحيلات، وذلك لسبب:

إن الذين ينضمّون الى جماعتنا ليتّسمون بشيئين اثنين لا ثالث لهما: الغموضية،

والإرهابية
.

أمّا الغموضية فموجودة لدى الأخ اميل عقرب، أما الإرهابية فمعدومة آخر عدم!
فلاحظوا على سبيل المثال كيف حاول الغموضية، غير أنه لم يرتقِ الى مستوى الإرهابية، في سياق تهديده السافر للمسلّم التنويري الأول:

إن الأرض مكوّرة.

فهو ليس كذلك للأسباب التالية:

"الأرض، كما يقول الألمان، هي الأرض - إلا أنه علينا أن نميّز بين ما هو الأرض، وما هو الأرض الدنيا، الشاملة، التي قد تعرّف بأنها طين وعالم وإنسانية مجرّدة، في الآن التي تقترب كل الاقتراب من مادية استيطانية تفوق كل خيال! "

وهذا منطقي، من وجهة نظرنا، اذا ما طبّقنا ما ورد على لسان إلين فان وولد، العبقرية الانتهازية الأخيرة:

" إن الله لم يخلق السموات والأرض، إنما فصل هذه عن تلك "

وهذا يبرّر لنا المعجزة الغموضية الناجحة التي أدّاها المدعوّ إميل عقرب، إذ حلّق في الأولى من دون الوصول الى الثانية. فإن لله في خلقه شؤون.

ولم تقف محاولة إميل عقرب عند هذا الحدّ، بل ذهب الى تزوير العلاقات الرابطة بينه بين الأب دريدا، برّد الله ضريحه وأسكنه أوسع جناته، الزعيم المؤسس لجماعتنا، وذلك لقوله تعالى:

" إن الأرض لماعون أكبر "

وما تلى ذلك من آيات مقدّسة.

أيها الرفقاء: إن إميل عقرب هذا ليس عضواً في جماعتنا. وإنْ قال:

" الموسيقار الشهير، بيتهوفن ، قام دون غيره بالتعرّض الى قضية الاونتولوجيا، وذلك من حيث الذاتية "

وغيرها من حلو الكلام.

إلا أننا نفرح أيما فرحة لانضمام الأخ الحي الميت، إيمانيول كانط، الى طوايا مشروعنا الإلهي والصالح!
وهو سفاك جزار لا يتكلم سوى لغة الدم!

أيها الإخوة الأخوات: لقد ماجت الأراضي بالدماء وتدفّقت من كهوف الأعداء!

تم نقل البيان.


04 أكتوبر 2009

مدوّنون من أجل الغموضية الإرهابية

مدوّنون من أجل الغموضية الإرهابية


Bloggers for Terrorist Obscurantism

[Les blogueurs pour le obscurantisme terroriste]


أيها الإخوان المناضلون، أيها الرفقاء المكافحون،

أينما كنتم فاختشوا واعوا..

أمّا بعد، أمّا بعد،

فاعلموا أنه قد لبث في بواطننا عطش أليم، كما سبح في دواخلنا ظمأ عظيم:

شهوة لاهثة لن يرويها إلا الدم!

علينا يا إخوة بدماء الذين تخلّفوا من البنيويين والشكلانيين وأنصار التنوير..

ولنبعث في قلوبهم الشكّ والزيغ وأشكال الإبهام، فنسحب على أبصارهم غشاوة النصّ وعلى عوراتهم ورقة التفكيك،

ثم لنزرع في حقولهم الملح وننزل في حدائقهم القحط والجدب والفاقة والجفاف، فلا يبقى من الشجر والبلح والبقل والطلح إلا الظلال،

وذلك وفقاً لما كتبه دلوس الونّوس في كتابه « تفضيل الفُطْر على الجذر »

ها هي الطلقة النارية الأولى لحملتنا:

رصاصة أطلقها دريدا ذات نفسه!

" اذ لا يكون ترقّب المستقبل والدعارة بشأنه إلا باعتباره شكل وأشكال الخطر المبين. فإنه الشيء الذي ينبذ العادات المتكوّنة نبذاً تاماً، بل لا يتم الإعلان عنه، التقديم له، إلا باعتباره وحش من الوحوش!"


كما أنه يبهجنا أن نعلن عن ضحيتنا الأولى، فنبلغكم بنجاح عملية اغتيال مدّعي الفلسفة جون سيرل، كبير دجّالي معسكر المعاداة للفرنسية، المسؤول الأول عن اغتصاب آبائنا الروحانيين وهتك حرمة بيوتهم في دهاليز كلية فرنسا العليا،

هذا بعد أن ملأنا محرّك سيارته بشتّى فصول الريزومات وشحنا سلكياتها الداخلية بالتناصّ المسموم، الأمر الذي عطّل فراملها وهو يقودها بسرعة واستهتار أثناء رحلته الصباحية المعتادة على كبري مايو، فانحرفت عن السكة وغرقت تحت أمواج النيل المتعبّبة. ويخمَّن أنه يرقد الآن في بقعة متوحلّة من النهر المذكور على مرمى حجر من مسجد إمبابة وملهاة "السلطانة" الشهيرة..

ويؤكد بعض من شهود العيان أن السيد جون تصرّف خلالها بهدوء تام، فتحلّى بالصبر وسلّم أمره لإرادة خالقه الذي اليه هو راجع..

غير أن البعض الآخر يقسمون بأن المتفذلك الأمريكي قد انتابته حالة فزع شديدة أدّت الى نوبة صرع هائلة أرعبت السيدات وأبكت الأطفال فتفصد الزغد من فمه وزاغت عيناه آخر زوغان..


وهكذا فحيّاكم الله جميعاً وعزّز خطواتكم وأهداكم الصراط الحميد،


06 سبتمبر 2009

أيتها الراعية الشفيعة

أيتها الأنا الصغيرة، الراعية الشفيعة،


إنّي أكتب لك طالبةً الشفاعة، مناشدةً بالعون، وذلك لما قد تعرّضت له نفسي في الآونة الأخيرة من إهمال وإغفال وسوء المعاملة على يد من كلّفتهم برعايتي خلال فترة غيابك: فترة عسى أن تقصر وألا تطول.

فاعلمي يا أختي العزيزة أنّه قد حدث بالأمس القريب، الأول قبل الثاني، أنّ حقّي قد سُلِبَ، وعرضي قد اُنتهك، ثم لبسي قد احترق وانطفأ، فوجدتُ نفسي عاريةً هشّةً أمام تصاريف الدهر الغادرة، وغير الغادرة منها.

والمقصود من هذا أنني كنت ضحية بهدلة غير قليلة، وفريسة مرمطة غير سهلة، من قبل أولئك المنوّطين برعايتي في هذه الفترة.

فقد طبخت لنفسي فنجان قهوة (نعم طبختها ولا من شاف ولا من دري!)، ولم أتذوّق سوى طعم الحنظل، ورائحة العلقم.

- ألا وهو شيء غريب! هتفتُ، وعواطف الحنين تشدّني الى مستقرّ لا قرار له.

عوّضيني هذا أيتها الشفيعة، جُعِلْتُ فداك.
نصول المطحنة لا تدور، لا تطحن حبّات البنّ السوداء. أمّا السكّين والسيف والرمح والقلم الذين قد تركتِني بهم، فلا رجاء فيهم ولا أمل.
لقد حاولت، عبثاً، أن ألفّ البنّ الطازج، غير المطحون، في ظرف من الورق البِكر - الذي جلبته من أعالي الغابات المحفوفة بالأخطار - ثم أن أسحقه سحقاً بما وسعني من قوّة: جهود ذهبت أدراج الرياح.

واعرفي أنني الفراشة الهشّة قد أحسست بقدر كبير من الإهمال، بل والخيانة، فهل هذا حق وهل هذا يرضيك أيتها الراعية؟

ما لي شغل بالسوق
مرّيت أجيبك
عطشان حفنة سنين
اروى على شربك!

المخلصة الوديعة،

11 أغسطس 2009

اكسترافاجانزا!

اكسترافاجانزا!

وقف جمبي عالسرير بيطرطش عليّ نبيت أحمر لحد ما جاب على نفسه.
قمنا رقصنا واحنا نفعّص في بعض.
وهات يا تقفيش. وهات يا بعبصة. فضلنا راقصين لغاية ما اتلعلع النور فجأة واتطفى، اتلعلع تاني إنما من تحت رجلينا. وشّه اتغيّر خالص، شكله بقى واحد تاني. وأنا كمان.

قلتله:
" هو احنا في ايه ولا ايه؟ "
" علمي علمك. "
" قصدي الشقة دي بتعمل كده ليه؟ "
" مش شقتي، يبقى مبسألش يعني ماليش صالح فيها. "
" هات زبّك ألعب بيه. "
" امسك. "

أخدت زبّه في ايدي قام هاجم عليّ. طرحني عالأرض راح ينزل فيّ طاخ لغاية وشي كله ما اتدمّى. ضحكت بحسّ عالي وشخطت فيه:

" بطّل بقى يا مجرم! "
" قال ايه قال مجرم! قوللي ياض انت فين مخبّي النبيت الأحمر. ما تنطق يا وله! "
" انت عبيط يا مجنون ولا شكله كدا بس؟ كنت بتكبّه عليّ وبقى خلاص. "
" آه صحّ، يرضيك كده؟"

انفلتُّ من قبضته بحركة أخولوتية، وانسللت الى وراء الزجاج حيث تعذّر له الوصول اليّ.


08 أغسطس 2009

قال الجاحظ، فقلتُ

قال الجاحظ، فقلتُ

قال الجاحظ: إنّ بعض من يظهر النسك والتقشّف اذا ذُكر الأير والحِرّ والنيك تقزّز وانقبض، وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من المعرفة والكرم والنبل والوقار إلا بقدر هذا التصنّع.

















استظرفتُ الفكرة فدوّنتها على ساعدي الأيسر. تململتُ في السرير وأنا أمعن النظر فيه، أكتم ضحكة بصعوبة - بينما وقفت هي ترشّ عليّ ثمالة النبيذ.
حاولت - بصعوبة بالغة أيضا - أن أكتم البديهيات التالية:

هناك فرقاً هائلاً بين الإدّعاء وبين عدم الإدّعاء بعدم الإدّعاء.
هناك فرقاً هائلاً بين السخرية وبين الفوق-سخرية.

هؤلاء في الفئة الأولى يبتغون حفظ مياه الوجه. ما يرغبون فيه إنما هو الإمساك بزمام السلطة والأمور، فمن يرسم خطّ الجدّ عن الهزل بإمكانه أن يطلق كافّة الأحكام المطلقة على الآخرين، ويخضعهم لنظامه الأخلاقي الخاص، المتكوّن أساساً من مصالحه الشخصية ورغباته الوصولية، والتي غالباً ما تعبّر عن سعيه وراء الحفاظ على مكانته الاجتماعية والاقتصادية.

قال الجاحظ أيضاً: هناك نظرية سائدة تفيد بأن الملابس تحفظ المرء من كشف العورات، وتحفظه كذلك من التعرّض الى النظرات المستنكرة والعيون المهتاجة.

من السهل جداً أن نكذّب هذه النظرية، من السهل جداً أن نعجنها ونلويها ونمسح بها الأرض.
المرء لا يريد أن يواجه جسده العاري، اذ يقتنع بأنه سيرى عندئذ جسداً غير متناسق الأعضاء، جسداً غير ذي إثارة - بل يثير أكثر ما يثير التقزّز والاشمئزاز.

وكذلك الكلمات العارية:

الأير والحرّ (أي المهبل) النيك.

والبظر والطيز والأحليل والجعضيض!

وأكثر من تجده كذلك فإنما يخاف أكثر ما يخاف أن يخرج عن بورجوازيته المتوسطة، الكارهة للفنّ والعبث والتنفّس!

ظلّت واقفة تسكب على جسدي العاري ما تبقّى من الخمر، ثم عادت واستأنفت العملية بالكونياك..

21 يوليو 2009

الإخاء

الإخاء

أم هل هو التآخي؟ المهمّ، لقد أفرحني كثيراً طلوع هذا السمندل (وهو أخ الأخولوتل)، قد تربطني اليه علاقة الأخوة، ناهيك عن أشكال الإخاء والتآخي ونحو ذلك.

نوّرت يا عدلي!

نوّرت يا عدلي!

هو عدلي رزق الله، فنّان معروف، مترسّخ في علمه، متموّج في البحر، وكما أنكم تتبيّنون ها هنا، وبالتحديد فوق، فقد اخترته هو دون غيره لتجديد رسم العنوان أعلاه. وبالطبع لم تسنح لي فرصة استئذانه وطلب رضاه في الأمر - وإن سنحت فإني لم أنتهزها - إلا أني لا أجد كبير ضير في ذلك. وقد يعتبره البعض انتهاكاً للحقوق الفكرية المشروعة للرسّام، قضية تُرفع الى محاكم الرأسمالية والفنّ التجاري - إلا أن هذا رأي الأحرى بنا ألا نولّيه كثير اكتراثٍ، فإذا أرادوا الحطّ من شأن الفنّ والتوغّل في الوسواس القهري فلهم أن يفعلوا ذلك، أو أن لا يفعلوا. مليش دعوة.

وكما قد يعلم بعضكم، فإني شِلت الصورة دي من على غلاف رواية " رامة والتنّين " لإدوار الخرّاط، الصادرة عن دار الآداب، ثم ألصقت عليها عنوان هذه المدوّنة، وهو " عالبحري " وظبّطت الألوان شوية بحيث تتناسق أكثر وأضواء المدوّنة الأصلية.

وربّما نستنبط من عنوان الرواية (وليس عنوان المدوّنة) أن هذا الحيوان البحري ألا وهو التنّين المرافق للبنت المدعوّة رامة. غير أنه أشبه بكثير، في نظر البعض، الى حوتٍ عظيمٍ يثوي الأعماق، أو فصل من السمك في أغلب الظنّ.

على كل، فإننا سنتعرّف (أو قد لا نتعرّف) على هذا المخلوق الفذّ أكثر في روايتي الصادرة قريباً بإذن الله سبحانه وتعالى (ثم عزّ وجلّ): " رسالة في [لسه ما قرّرتش] ".

أمّا سبب كتابتي رواية فرغبةً أولاً في اللحاق بموجات التقدّم والارتقاء، وكذلك بلوغ النور الساطع وتناول القوت الناجع، ثم زرع جذور النرجس فتسلّق جذع زهرته، إضافة الى ارتداء ملبس جديد، لا هو قبّعة ولا هو حزام، بل أقرب ما يكون الى تسريحة جديدة تعقبها عملية ترقيع فرانكشتينية كاملة.

ثمّة أيضا الرغبة في التجسّد، على غرار ما حققته المدعوّة صبا الحرز عند صدور روايتها " الآخرون ". إذ رغم سباحتها الكتابية في ندوات الانترنت، غير مقيّدة لا بجسمها ولا باسمها، بل حرّة طليقة لا يعوّقها عائق، فإنها في نهاية المطاف التجأت الى جسدية الكتاب المنشور، المحمي المحدود بين غلافيه، يربطها بكلمات ثابتة، ملموسة، تمسكها اليدان. غير أن " صبا الحرز " هذا اسم لشخص لا وجود له على أرض الواقع.

ولا نستبعد أن يكون هناك سببا آخر، رابضا في طوايا النفس الغادرة، وهو أخلاقيات العمل البروتوستانتية - التي تقوللك يا إما تنتج حاجة يا إما تنتحر وبلاش تضيّع مواردنا الطبيعية المحدودة، المتصارع عليها. وهي الأخلاقيات التي في نفس الوقت تكاد تثنيني عن عزمي في الكتابة، بل تكاد تقطع الوشائج بيني وبين الأدب نهائيا!

ولعلنا نستوحي بعض ما بدر من أفواه الآخرين في هذا المجال - أي دوافع الكتابة - على سبيل المثال:

منى الشاذلي: كتبتي ليه الحواديت؟
رحاب بسام: صراحة خالص، العِند!
(العاشرة مساءً)

مجدي: انتي ليه بتكتبي بالعربي مع ان معظم قرائكِ إنما هم في الغرب يقرأون رواياتك بالفرنسي والانجليزي؟
هدى بركات: الحِقد!
(ندوة في جامعة تكساس)

هذه شذرات، أصوات تبادرت الى ذهني عرضاً أو بغير عرض، لمَ لا نقتبسها ونقدّسها كما نقدّس الكلام في المتن؟ في الحقيقة، لقد تردّدتُ قليلاً في إيراد سؤال مجدي، أوّلا لأن اسمه ليس مجدي، وثانيا - وأياً كان اسمه - فهو من ألدّ أعداء الأدب والعبث، فلماذا نفسح له مجالاً في بحر كلامنا المنطلق الحرّ؟ لا ضير ولا غضاضة.

17 يوليو 2009

بعض ما طاب ولذّ من الكلام الهابط الفذّ

بعض ما طاب ولذّ من الكلام الهابط الفذّ

اليكم بكلمات أقتبسها من رواية ما. ولكم بعد مطالعتها التصرّف كما ترون.
حزامة حبايب تتحدّث:

" [ وكان] يشرح لها أصول النحو وقواعد اللغة العربية ... كان يبدأ بإعراب مبتدئها وخبرها، ما تقدّم منها وما تأخّر... وإذ تأكّد أنها فهمت الدرس الأول، انتقل الى الأفعال اللازمة والمتعدّية، متعدّيا على أزرار الفستان، زرّاً زرّاً، فيتدفّق ثدياها، كرتي ثلج ولهب، تتمطّى حلمتاهما فيأمرهما وينصبهما ويجزمهما، ثم يمتدّ فعله المضارع من صدرها ... معليّا صوته بالشرح الوافي، الى أن يبلغ حافة سروالها، فتنزلق يده على المفعول به والمفعول فيه والمفعول معه والمفعول لأجله والمفعول المطلق، ولا يتوانى عن تشكيل أحرفها الملساء بحركات الفتحة والضمة والكسرة والسكون، الوثّاب التوّاق، برأس اصبع المستدفئ بجملتها الممتعة، المفيدة. حين ينتهي من شرحه يسألها ما اذا فهمت الدرس... "

من رواية حزامة حبايب، أصل الهوى. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت. 2007. (ص 109-110).

22 مايو 2009

جلود وخدش

جلود وخدش

المداخل الفضلى

هبْ أنها نزلت مقبلة مدبرة الى خشبة المسرح تحملها مرجيحة برفق وقدر لا بأس به من الخرافية المهضومة حتى لامست بنات قدميها الأرض - لم تكن حافية بل مرتدية جزمة جلدية سوداء - تَكْ قُبْ، تك قب، فانزلقت منتصبة ترفقها وثبة غزل تكاد لا تُلاحظ.
ولا ننسَ تلك الوردة اللي مركّباها في بقّها المضموم البضّ، جذعها مرفوعة على أضراسها إذ حاشا لله أن تخدش أشواكها شفتيها الغضّتين الممتلئتين، ثم ما إن هبطت من كرسي المرجيحة حتى خلعت الوردة وألقتها الى الجمهور فلوّحت لهم بالقبلات والغمزات، لكن باقتصاد لا يشوبه الدلال!

فقلتُ على سبيل التقديم: أيها الإخوة! البحر أمامكم والهدى خلفكم!

تناولت الوردة من يد من تلقّفها، فأمسكت بجذعها وجعلت أمضغها مضغاً ما بعده مضغ. سالت قطرات من الدم بغزارة ولم تتوقف حتى أغمى علي.

جاء في المحضر ما نصّه:

راح يمزمز في الوردة قام سخسخ على نفسه.

المراية

وقتها أدركت أن الوردة كانت ثقيلة بعض الشيء، لا تليق بالخرافية المهضومة ولا بمن يلبس جزمة شيك قد كدا، محسود عليها. غير أن هذا الإدراك المتأخر لم يسعفني ولم ينقذني من فترة عذاب لعلها طالت ولعلها قصرت، أجهضت أم حبلت، عرفتُ خلالها عملية زرع وإعادة تشكيل ما بين الحنكين، أمدّوني بعدها بمراية تلوّثها تلاطيخ متخثرة من الملح أو ما شابه،

جعلت أضحك.
جعلت أقهقه.

أبعدوها! صرخت، بصوت اختلطت فيه الأوامر بالنواهي. بعقيرة، اقترن فيها الجدّ بعكسه.

أحالوني الى جناح العناية الخاصة بسرعة فائقة داخت لها النفوس، أو هكذا زعموا. الحقيقة أنهم أودعوني الحجر الصحي. هذه الجروح، هذه الندوب المرعبة، لا بدّ سببها عدوى ذو بأس، أو جرثومة ذات شأن.

"حسناً فعلت". باغتني قوله، عملت شقلباظ كده لورا من فرط الصدمة، تعثرت ووقعت على قفايا. لم أكن أتوقع أن يشاركني هذه الزنزانة أحد. ولم أكن أتوقع، بطبيعة الحال، أن يكون هذا الأحد عفريت الماء، السمندل، الكائن الشاذ، الأخولوتل. جرى بينه وبيني هذا الحوار.

كونياك: ايه اللي جابك يا مسخ.

الأخولوتل: لا شيء، غير الظروف وجواباتها. إلا أني أعترف، تكريما لك، أني هذه المرّة ورايا شغل تاني غير ذلك.

ك: اللي هو ايه؟

الأخ: كلّفوني بتسليتك خلال إقامتك هنا، لغاية ماترجعلك الصحة فتكون مستعدّاً للخروج الى مراتع البشر ولا فيك عدوى ولا يحزنون.

ك: واللي كلّفوك ...

الأخ: اللي كلّفوني كلّفهم الشر، اللي هو برّا وبعيد. والأفضل لك أن تسكت وتسمع كلام.

ك: يا خويا شوية أدب ربّنا يخليك.

الأخ: يأدّبك شيطان. المهم، أنا منوط بمهمة تسليتك كما أني منوط بمهمة إمدادك بالحق والمعرفة والنور والغذاء. ومن أجل تحقيق مرادنا هذا، أريد منك أولا أن تبتعد عن العلب والقاروصات والباكتّات وكل ما يوضع على الرفوف قبل الاستهلاك. وعليك ايضا أن تتحاشى الرشاشات والبخاخات وكل ما آخاها من حلول تباع وتشرى.

ك: لكني، يا أخي المسخ، لقد امتنعت عن الحاجات دي من فترة مضت وانطوت. بل لم أكن أستسيغها إلا وأنا متوغّل في طيات البورجوازية المتوسطة بكل أفخاخها. هذا وبطّلت آكل المطاط والورق المقوى وما حالفهما من الأطعمة المسمومة.

الأخ [وهو يعقد حاجبيه بما يدلّ على التأفف ونفاد الصبر]: اعرف يا عكروت أني لا أكنّ لك سوى المودّة والنيات الحسنى. فماذا بك تكذب وتماطل في الأباطيل.

ك: جك القرف. بقولك بطلت يعني بطلت.

الأخ: والوردة؟ أليست هي من السلع المعبّأة؟

ك: فعلا لقد استثقلتُها، وهذا مسجّل، مدوّن. بس خلاص بلعت الموعظة بحذافيرها - التعويرات اهيه والندوب اهيه. أنا عشان كده ودّوني المصحّة دي.

الأخ: اهو انت كده هرشت كويس...

ك [مقاطعا]: بس لحظة يا أخولوتل بيه. إن شممت شيئا من كلامك، فإني شممت هاجس الأصالة بروائحها البالية النتنة.

الأخ: أوصّيك يا خوي أن تطّلع على الردح المتبادل بين إبليس واسمه ايه ده العزيزي، اذ يبان فيه بعض ما هو عبيط وبعض ما هو مفيد لمن ينوي - مثلك - إعادة ترتيب مطبخه ومغسلته.

ك: أفهم من هذا يا أخ أنه في التراشق ما بين الاثنين شيء من الجدلية التوليفية، بل لعلّ حوارنا هذا يتقاطع معه بشكل لولبي مزدوج على نمط الحمض النووي. فعندك مثلا تركيبة غسل الدماغ عند مختار العزيزي، فيقذفه بيسو بالشعار الدعائي أومو تغسل أكثر بياضا.

الأخ: والذي يؤدّي بنا بالتالي الى أن نسأل - هل يحنّ أحدهم الى عصر ذهبي مضى، كان يخلو تماما من الكيمائيات والسراطين؟

ك: أظنّ أنني أنا الذي كنت أتّهمك بالتشعلق بوساوس الأصالة.

الأخ: المهم، يا أخي، أنه يجب عليك أن تجترّ عواقب الغسل والتطهير، فما بك كنت تغسل هدومك في المية السخنة، هل من أجل إبادة الجراثيم الفتاكة أم من أجل الشعوذة وطرد العفاريت؟

ك: والمفارقة، يا أنت، هي الارتياح مع النفس وقد تراكمت عندها ما يوضع في النملية ويُرجع اليها عند الضيق والشعور بالفراغ. وأعني بذلك طبعا الكابسولات والأكل السريع.

الأخ: لكن ألا أذكرك يا مسخ بما يوحي به ذلك من ترفّع طبقة على طبقة أخرى، وتفضيل القشرة على القاع.

ك: واذا كان القاع يستهلك القشرة، والقشرة السابقة هي التي بإمكانها اختلاق الجذور، فما عسانا نفعل يا بتاع المعرفة والحق والنور والغذاء؟

الأخ: لعله يكفي، يا أخي، أن...

ك: لعله يكفي أن نعترف بتورّطنا في الموضوع أساسا وصعوبة الخروج منها، فنكتفي بفضح الروابط الكامنة والعلاقات الباطنة، كي نرقص يا أخ، كي نرقص ونقصف ونتقصع تقصعا ما بعده تقصّع!

الأخ: دانت هرشت كويس، ولعلي هرشت حبّتين كمان. عشان كده حادّيلك كادو يخلّيك تخفّ وتشيل الخدوش العميقة اللي معوّرة وشّك. سوف أخلي لك جلدي فيكون بإمكانك أن تكمل عملية الترقيع والتشكيل.

ك: جُعلتُ فداك يا أخي.

18 أبريل 2009

الطبخ والطلاق

الطبخ والطلاق

أوصيكم بما جاءني في البيان الأخير

وهو بيان من بين البيانات الواردة اليّ أوقات التعرية، والخلاعة

الأوقات اللي أقلع فيها هدومي كلها!

وأقف عاريا مشكوفا في الشارع، عريا تاما لا يتسرب اليه الشك،

أما ا البيان فكالآتي:

" الحلّة عالبابورة عاشية عيالك / رايحة بيت أبوي مش راجعالك "

(تم نقل البيان)

15 مارس 2009

أنا والجاكيت والفشخرة

أنا والجاكيت والفشخرة

الاقتصاد

هي الحقيقة للأسف الشديد، ورغم ذلك،
وهو رغم كبير! لقد عرفت حكاية طويلة، لا تزال خيوطها تجري وتعود، تتعلق بما حدث بيني وبين الجاكيت والفشخرة، وأي فشخرة!
اسمعوا!
أو لا تسمعوا، فلا يهمني على الإطلاق.
الغرض... فهمت، ان الاهتمام (بل والشغف) بالظاهر من دون الباطن، والتعلّق بالمزعوم على حساب المخفي، شأن من شؤون الاستعراضية الفارغة، والرأسمالية الكاذبة، يصبّ في مصلحة التشليح والإفقار.

لكن ما الذي دفعني اذن، للجري وراء الأكذوبة، والتلهّف على الدنيء من الأمور؟ ومنها ذاك الجاكيت!
هل هو البرد؟ كلا، اذ اني عمري ما فضّلت الصحّة على الجمال، ولا الدفء على الذوق، فكفانا كلام العقل، لأنه ليس بنا لائقاً!

على كل، لم يكن الجاكيت، في نهاية المطاف، من نصيبي. حتى الآن.

انفقأت الفقاعة وبانت من خرابها السوائل الفاسدة والمياه الآسنة،

أيتها الإخوة والأخوات، لقد بلغنا الهدى، وتصدّينا لمن بقلوبهم حقد ومرض ورياء وشكّ،

فلقد تغلّبنا على الخونة والخائبين والمرتزقة من القوم،

وعرّيناهم على الملأ، وعلّمنا الحق والدفء والأمنية والإخلاص،

وأثبتنا أنه لا غلبة ولا سلطان إلا لمن يرفض الإسفاف والعفن في بضاعة الإستهلاكية الرخيصة، السهلة، وسلعها المغشوشة بالحموض والطفيليات والعبودية والإشعاع،

والدنيا بعد البرد الخفيف قد عرفت أخيرا الحرارة،
فهل أجد سبيلي الى حذاء جديد؟


15 فبراير 2009

النصرة!


النصرة!
على الرغم أنه قد مضى على التقاطي هذه الصورة نحو عام، إلا أنها لا تزال تبعث في قلبي الاطمئنان وترفع معنوياتي رفعا ساميا. فإن هذه الصورة تظهر لنا نصرة البحر على الظلم، وهو يرسل أهويته العاصفة الغاضبة لتقضي على رمز من رموز الهبل والقرف والعفن والإسفاف! الى الجحيم أيها المقلّد السارق يا عميل الاستهلاكية يا جند من جنود الرأسمالية يا بضان واكتئاب يا عمرو دياب! يلا في ستين داهية يا زفت الطين انت.

08 فبراير 2009

مَن ولماذا

مَن ولماذا

ليس هو بمتشرّد، اذ لا أفترض أنه قد شُرّد من بيته. وليس هو بشحّاذ أو متسوّل، اذ لا يشحذ مني مشحوذاً ولا يتسوّل ذي تسوّلٍ. ثم الأكيد أنه ليس بصعلوك، اذ الصعلوك له شِعره - بينما هذا الرجل، الذي يجلس بجانبي في الحافلة العامة، لا ينطق إلا هلضمةً، ولا ينبس إلا كركعةً مبهمةً.
هذا هو انعدام الخدمات الاجتماعية، وفشل الدولة الرأسمالية.

بيان

بيان

أشكر الزميلة فلانة بنت علانة على لفت انتباهي الى هذا البيان التنظيمي الهام، الذي يصبّ في مصلحة بحرنا المشاكس ويعزّز معنويات عبابنا المعاكس.

01 فبراير 2009

أهنّئ

أهنّئ

أريد أن أهنّئ العدواللدود، الكائن السخيف، الواد المايص، على إنشاء مدوّنة جديدة: عايز أتعلّم مصري.
وأتمنّى له الفشل السريع والإخفاق التام، ثم الامحاء نهائيا عن الفضاء الافتراضي، اذ هذا الفضاء قد ازدحم واكتظ بالكتاب وأنصافهم، ولقد طفح الكيل!

17 يناير 2009

لقاء اليوم

لقاء اليوم

الحوار التالي جرى بيني وبين حاكم ولاية إلينوي المنحوس رود بلاجويفيتش، وقد تم نقله الى هذه المدوّنة فور انتهاء بثّه مباشرة على القناوات الفضائية كافة وبعض الأرضية، العالمية منها والمحلية.

كونياك: آدي انت خرّبتها بجد...

رود:
أفندم؟

كونياك:
ولا حاجة. يلا نبتدي بقى. اسمك.

رود:
رود بلاجويفيتش.

كونياك:
الأصل والفصل.

رود:
حاكم ولاية إلينوي الحالي ونائب في الكونجرس عن دائرة في مدينة شيكاجو سابقاً. خادم المواطنين وصاحب الحلّ والربط، الفكّ والجمع في مجالات شتى منها التغيير السياسي والإصلاح الاقتصادي. حمايا رجل سياسة مخضرم ونافذ. أما إنجازاتي فلا تعدّ...

كونياك [مقاطعاً]:
... ولا تحصى. نعم. قوللي يا رود، إنت ايه اللي خلّاك تطرمخها كده وتخون المواطنين؟

رود: انت عارف بتكلم مين؟ ماتلمّ نفسك.

كونياك: مانا لاممها عالآخر يا سيادة الباشا. يلا بلاش تحاول تفلفص. انت ليه حاولت تبيع مقعد الرئيس أوباما الخالي في مجلس الشيوخ؟

رود: بصّ يا أستاذ كونياك، معقول يعني أخلّي الفرصة الذهبية دي تفوتني؟ معقول؟

كونياك [موجّهاً كلامه الى الجمهور]: سيداتي وسادتي، ها أنتم قد سمعتم بآذانكم ورأيتم بأعينكم الاعتراف العلني للحاكم رود بلاجويفيتش، والذي فشل المحققون والمتحرّون في الحصول عليه، إلا أن الكونياك نجح في الجلاء عن الحقيقة بفضل مهارته الاستجوابية المتفوّقة.
[ثم الى الحاكم] كمّل يا فخامة الحاكم.

رود: زي مانا قلتلك - فرصة ذهبية. يعني أعيّن شخصاً محترماً لمقعد أوباما السابق مقابل ما بغدق عليّ هذا الشخص هدايا مالية أو سياسية. فقد دعم الشاعر ذلك بقوله:
إذا أكرمت الكريم ملكته وإذا أكرمت اللئيم تمرّدا

كونياك: ما شاء الله. حاكم وحافظ شعر كمان. فعلاً لقد أخطأت في حقّك يا ريدو. نفسي أعزمك عالقهوة، نقعد ساعتين تلاتة وندردش.

رود [باستياء مبين]: انت بتشتغلني؟

كونياك: لا يا شيخ دانا معاك. بصراحة لو كنت مكانك كنت عملت نفس الحكاية. عارف يا ريدو، من زمان وانا نفسي أخشّ السلك الديبلوماسي ولا أرشّح نفسي لرئاسة هذا البلد أم ذاك، حاجة سياسية جامدة يعني. بس إيه، ظروف يعني.

رود: طب ماقلتليش مالصبح كده ليه؟ بقوللك ايه، قرّب شوية واسمع. [يقرّب ثم بصوت منخفض] أنا ممكن اساعدك عشان تحقق حلمك دا.

كونياك: أيوة.

رود: ايه رأيك تكون السناتور الجديد لولاية إلينوي؟

كونياك: هه؟ انت عبيط ولا بتستعبط. المقعد دا خلاص بعته.

رود: آه صح كده. طب ايه رأيك أعملك عمدة لمدينة كبيرة.

كونياك: قشطة. بس مدينة ايه يا ترى.

رود: مممم... هيوستن يعني. مدينة هيوستن.

كونياك: يا معفّن.

رود: طب نقول مدينة شيكاجو ويا دار ما دخلك شرّ.

كونياك: ماشي اتّفقنا. يلا نقرا الفاتحة.

كونياك ورود [بصوت مهلضم]: بسمالله الرحمنالرحيمالحمدلله ربالعالمين ... آمين.

رود: مبروك يا عمدة.

كونياك:
عقبال عندك يا صايع. [ثم مستدركاً] لو عرفت تشيل نفسك من السجن يعني.

رود: يوووووه دانت بارد قوي. وقد أكّد الشاعر ذلك بقوله:
جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجود

كونياك [بنفاد الصبر]: وبعدين.

رود: يعني مش احنا كنا اتفقنا؟

كونياك: ايوه اتفقنا على انك تعيّنني عمدة، وخلاص.

رود: سفخص! وانا استفدت ايه من الكلام دا كله. ولا هدايا ولا دياولو.

كونياك [باستخفاف]: يلا عالبركة. [ثم متوجّهاً يم الجمهور] أعزائي المشاهدين، أشكركم على حسن متابعتكم. ثم أذكركم بأن أحسن مسرح هو مسرح الدولة.

01 يناير 2009

أتنبّأ

أتنبّأ

بعد أن قضيت فترة في تروّي ما يسمّيه أحد أساتذتي " السؤال الوجودي الكبير "، يعني إيه اللي جابلي هنا، لقد توصّلت ( و إن لم أستقرّ ) الى أن المدوّنة مساحة تصلح لأشياء ولا تصلح لأشياء أخرى، مثلها مثل أخواتها في النشر والكتابة، كل واحدة منها تجيد فنّاً ما ولا تجيد فنونا أخرى رغم بعض النجاحات التي تسمح بها المرونة .

بلاش فضفضة ياختي ماتلخّصي بقى

طيب، نكتفي بالقول أنني رأيت في المدوّنة مساحة تتفوّق في نشر أجناس أدبية معينة دون غيرها: الإباحية، الإفشخانة، التنبؤ، الخ. ولهذه الأجناس أكرّس مدوّنتي من الآن فصاعداً...

وأبدأ في التنبّؤ بما سيحدث في سنة 2009:

ألِفاً، سيلقى الرئيس حسني مبارك حتفه إثر اصطدام سيارته بقطار انحرف عن سكّته لأسباب غير معروفة، وشبه مستحيلة من النظرة العلمية.

باءً، سيعرف الرئيس حسني مبارك أجله بعد تلقّيه رسالة مجهولة المصدر تأمره بالانبطاح أرضاً على الفور!، فيتجاهلها ثم وهو يخرج قاصداً الحديقة إذ ينقضّ عليه طير الرخّ، مغرزاً مخالبه في منكبيه وخاطفاً جثّته الى بعيد حتى يتوارى عن الأنظار المتطلّعة والأبصار المتهلّلة.

جيماً، سيستمرّ شغف الناس بالرئيس وتقديسهم لمنصبه ، معارضين كانوا أو موالين، في كل أرجاء العالم وأطرافه، وذلك رغم وجود أشياء أهم بكثير مثل بنية الدولة ومكونات النظام.

دالاً، ستستمرّ الحلقة المفرغة في الدوران.

هاءً، الجوزاء ستتساحق مع العذراء، فيهتزّ الميزان ويشتدّ نقاشاً وجدالاً حول الحرية الجنسية، واحتمالات الحمل والإصابة بالسرطان، وكذلك مستقبل القوس القزحي، فيدلي بالدلو في الأمر كل من الأسد والثور والجدي أيضاً، أمّا الحوت فسيبتلع الجميع، غير أن العقرب على الساعة يدور باستمرار!

واواً، الرئيس بوش سيرجع الى مزرعته ويعود الى الجعة والصيد.

زيناً، تامر حسني سيرجع الى السجن ويلحق به كل من شيرين وعمرو دياب وعمرو خالد ورود بلاجويفيتش، ومبارك ايضا إن لم يمت!