29 نوفمبر 2009

كوكتيل المنفلوطي

كوكتيل المنفلوطي

أنزل مترو الأنفاق وكل طموحي أن أتجه شرقاً.

أركب الخط الأخضر قاصداً الخط البرتقالي.

" أيها السادة الركّاب، لقد تأخرت القاطرة نظراً لأعمال فرق المطافئ المدنية"

أركب الخط الأزرق قاصداً الخط الأحمر، وذلك من أجل الوصول الى البرتقالي من ناحية أخرى.

" أيها السادة الركاب، لقد تأخرت القاطرة نظراً لأعمال فرق المطافئ المدنية"

أقف محملقاً في النفق الفارغ، وقد بدأتْ تتبلور في ذهني الخطوط الواضحة لأزمة وجودية كبرى. كل الطرق أمامي مسدودة، أمّا فكرة التراجع فمن رابع المستحيلات.

طب والعمل ياخوانا!

في هذه الظروف، في هذه الساعة المتأخرة من الليل، حين تمتزج حمى الغضب بفوران الثورة، وتزخر أنهار الدم من عروقها الزرقاء، ما من حلّ سوى كوكتيل المنفلوطي.

ما هو كوكتيل المنفلوطي، يا ترى؟ - إنه سلاح ولا كوكتيل مولوتوف ذات نفسه! وله قصة شرحها يطول.

يُحكى أيها الناس أن السيد مصطفى لطفي المنفلوطي كان أيام العزّ " يترجم " الى اللغة العربية روايات وقصصاً لبعض كبار مؤلّفي أوروبا. وكان السيّد المنفلوطي نفسه يقول عن هذه الترجمات:

" إن عملية الترجمة، في المعتاد، أقرب ما يكون الى الرجم، أي رجم الشيطان. ومن هذا المنطلق، تكون ترجمة نصّ ما عبارة عن الحدّ من القوى الشيطانية، وحصرها بل وتقييدها في صوت واحد هو صوت الواحد الأحد. لكن ما أقوم به أنا مختلف كل الاختلاف عن ذلك. اذ أننا باعتقادي لن نوفَّق في قراءة الآخر إلا اذا أدركنا أنه ليس آخر واحد بل آخرون متعدّدون ..."

وهنا ينقطع النصّ، فيبدو أن السيد المنفلوطي عندئذ قد اقتحمت منزله قوات الأمن، ظنّاً منهم أنه كافر حقير يعبد إبليس دون الإله العلي العظيم – الذي تجسّد آنذاك في الملك فؤاد – فأحرقوا ما بحوزته من مؤلّفات ولم تتبقَّ سوى هذه الورقة بكلماتها الواعدة المتشظية..

لكن المنفلوطي بشطارته قد احتال على الدهر الغادر وتمكّن من توصيل بدعته الأهم الينا، فإن الواحد منا اذا قلب الورقة المذكورة على ظهرها سيجد مخربشات ملتوية تحتوي على " التوصيفات الصحيحة والتعليمات المريحة في ركوب مركب النوتي وإعداد كوكتيل المنفلوطي ".

وقد ابتكر هذا الكوكتيل، في نظري، كي يصدّ لما كان يتولّد وقتها من أسياخ غليظة وقوالب حديدية، تلوّت ثم تجمّدت فتجلّى من خلالها بناء هائل ألا وهو الرواية العربية الحديثة. فكان هيكل، وكان محفوظ. ثم ما تلاهما من روائيين جدد. لكن بقي القلب واحداً: الرواية المتّحدة، المتكاملة، ملكة الخطاب الحداثي المتوّج. نظام معرفي اونتولوجي قائم بنفسه. بل إنها الاونتولوجية ذاتها: لا تُلفظ كلمة، لا يبدر صوت، لا يحدث حادث ولا تقع واقعة، إلا وننسبها في الآخر الى صفحات الرواية المعدودة، المنشورة، التي يكسوها غلاف ذو اسم وعنوان وحقوق فكرية.

وقد أبصر المنفلوطي بفطنته الفريدة الى أن هذا البناء المتين، ورغم هجومات المفككين والقرّاء الأحرار، إلا أنه قائم لا محال، غير آيل للسقوط، ولن ينهار ولو انقضّ عليه ألف جرّافة. فإن الرواية قد وجدت من يحميها، ويسبّح لها، في دهاليز جامعات العالم المتطوّر، وغير المتطوّر.

في هذه الظروف، في هذا الساعة المتأخّرة من الليل، حين تمتزج حمى الغضب بفوران الثورة، وتزخر أنهار الدم من عروقها الزرقاء، ما من حلّ سوى كوكتيل المنفلوطي.

دسست يدي في جيب المعطف الثقيل، فأخرجت زجاجة ذات إشعاع أحمر مبين.

رميتها بكامل قواي على السقف.

انفجرت بغتة عدّة ثقوب صغيرة، توسّعت فتمازجت، انبثق منها النور. ومن كل ثقب طوق نجاة: هذا حصان، وهذه دابّة البرّاق، أما هذا فأسانسير ألماني أصيل. وغيرهم. باختصار: أمامي الآن أكثر من وسيلة نقل.

وبينما أنا أقف متردّداً، متريّثاً فيما عساني أركب والى أين أتجه، إذ انقضّت عليّ مفرزة من الشرطة فطرحوني على الأرض وأخذوا يبولون عليّ وعلى بقايا نيران الكوكتيل.