10 ديسمبر 2009

عن الشاي الذي لا أشربه، إذ أنني أفضل القازوزة

عن الشاي الذي لا أشربه، إذ أنني أفضل القازوزة

هذه كذبة. وما يلي ليس سوى تيّار متدفّق من الأكاذيب أطلقها من أجل المتعة، وحدها المتعة.

حسناً. ثبّتّ البرنيطة على رأسي بإحكام، حتى لا تطير به الرياح الخفيفة، ثم واصلت السير مشياً على الأقدام: ركوب الأوتوبيس غير محبّذ في هذا الوقت، ولم أكن أحفظ جدول تحرّكاته على كل حال. أما الفيسبة فليست سوى حلم من الأحلام.

بغتة التمعت في ذهني فكرة هابطة:

زجاجة بورت تتوسّط الغرفة، تدور وتندلع بعطايا ربانية لا تربط الى النهار بصلة.

وهذا ما لن يتوقّعه ليندزي أبداً، فالمؤكّد أن باله مشغول بأفكار أخرى، أقل طموحاً، وأقل .. هبوطاً. يقبع ليندزي الآن في شقّته التي تبدو وكأنها كانت تعيش حياتها السابقة غرفة من غرف فندق رخيص على منحنى الطريق. شقة لا يمكن تمييزها بين عشرات الشقق المتشابهة، مصطفّة بانتظام بارد على عمارة ذات طابقين. الغرض، مشهد لا يبعث على الأفكار الطموحة، ولا الهابطة.

لهذا يجهل ليندزي أن البورت – ورغم أنها ليست سوى لعبة ممتعة – إلا أنها لها قوانينها الخاصة التي يجب مراعاتها، وأخذها بعين الحكمة والاعتبار، قوانين توارثتها الأجيال أباً عن جدّ منذ أن قدمت الشركات البريطانية الى البرتغال لأوّل مرة، فعاثوا في الأرض فساداً واغتصبوا السيدات ولاطوا في الرجال إلا أنهم ارتاحوا في الآخر الى كنز فريد ذي لون أحمر داكن.

فإنك اذا حالفك الحظ ووجدت نفسك في سهرة تتوسطها البورت، يجب أن تعلم ما يلي.

أولا، اوعى يا شاطر تصبّ لنفسك كأساً من البورت. من اللازم أن تتم هذه العملية – طبقاً للأصول – بالغمز واللمز وأنت تقول:

" تخيّلوا أيها الأحبّاء أني كنت في يوم من الأيام مدعوّ الى حفلة حضرها أهل الذوق والأخلاق، إلا أنه سرعان ما سقط عنهم الحجاب، وأميط عنهم اللثام، اذ ما من أحد تفضّل وصبّ لي كأساً من تلك البورت العصماء"

ثم اعلم أن البورت لا تُشرب إلا والليل معتكر أو به رذاذ خفيف، وفي نهاية السهرة يعلن من بمقامة المضيف: " نخب الملكة عاشت وتحيا !" فتأخذه نوبة من الحماس ويندفع قافزاً من الشبّاك.

إنا لله وإنا اليه راجعون.

بالطبع، يجهل ليندزي كل هذا، إلا أنه يجب أن يتعلّم وإلا ضاع. لذلك اشتريت الزجاجة المنشودة، وقدّمتها اليه عند وصولي الى مسكنه.

"امسك" قلت.

"يا سلام" قال، "لكن اتفضّل انت الأول"

رددت بصرامة: "لأ. مشربش البورت. إني أشرب القازوزة فقط"

تعرفت على المدعوّة دينا، بتشتغل في صحيفة الحوادث. قالتلي انها عايشة لوحدها، بس ايه، عندها كلب قد كده (وجعلت ترقص يمنة ويسرة مما يدل على حجم هذا الكلب، في ما أظن).

حدث ذات يوم أني اجتاحتني وعكة صحية، فالتزمت الفراش. قالت دينا: اشرب زنجبيل، هيخليك زي الفل. حاضر يا ستي، يا ست الكل، جعلتُ أنا فداك.

إلا أنني شربت القازوزة.

قال لي فتحي أن أباه مكلّف بمهمّة فريدة: النزول الى القاهرة الكبرى والإتيان بكلية مثلّجة، ثم سيعود بها الى الاسكندرية. وما أدراك ما الكلية. إنها تركيبة بشعة من الخلايا والغدد، تفرز ما تفرز من منكور ومكروه وسوائل مطهّرة.

لكنني لا أشرب سوائل الكلية.

قام السيّد خايمي نولارت وتفرّس في وجهي:

" إني لا أفهمك. لقد دنت الساعة منتصف الليل، وها أنت لا تطلب سوى كباية ساخنة من الشاي. بصّ يابني. لا يأتي هنا إلا نوعان: النوع الذي يشرب الكونياك، والنوع الذي يشرب الموز باللبن. فقل لي من فضلك: أيهما أنت."

قمت أنا الآخر، فقلت ملوّحاً بيدي بطريقة بهلوانية:

"قطيعة! مشربش غير الشاي ومن أوهمك بغير ذلك فإنه واهم واهم واهم.."