31 مايو 2010

غرضه الهجاء: الخطوة التاسعة

غرضه الهجاء: الخطوة التاسعة

قام عم سحتوت مطرقعاً إصبعيه وهو يستهلّ حديثه المطوّل:

وحّد الله. ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام. كان فيه واحد ملوش تاني، قال يضرب العشرة عشان يجيب حتّة عيّل، أصل الراجل دا ما كانش متجوّز حاكم أيامها الستات لسه ما اتخلقوش.. المهم، جاب ولد سمّاه جو بالجيم غير المعطّش،وبعدين جاب بنت فسمّاها شيكة. وتعاقبت الأيام ومرّت السنين، فنتأ للبنت نهدان ممتلئان وطال شعرها، أمّا الولد فأطلق قضيبه واكتمل جسده. فما كان من الرجل إلا وجوّزهما على سنّة الله ورسوله، علشان مايبقوش عايشين في الحرام والبتاع. وذات ليل معتكر وهم يتسامرون يعربدون، إذْ تسلّل الى مجلسهم بورص قال لهم: أيها المؤمنين. أيها الأصدقاء. أنا عندي في الشنطة كمترى أحبّ أتخلّص منه. أرجوكم خذوا هذا الكمترى وكلوا منه وأكون أنا من الشاكرين. فما كان من الرجل الوالد إلا أن ضحك ضحكة رنّانة استخفافاً بالبورص وبشأنه، ففعصه بجزمته ثم شواه عالنار وشارك الجميع في أكل البورص المنحوس. خلاصة القول إن الولد والبنت لمّا مات الوالد بعد ذلك بعدّة سنين قالوا: فلننشئ أمّة عظيمة، وتكون أساسها هذه المدينة. وهكذا تأسست مدينتا الفاضلة، شيكة - جو أيْ شيكاجو كما نعرفها اليوم. وهي بمثابة الجنة لكن مش هتلاقوا فيها ولا بورص ولا كمترى، ودا العيب الوحيد فيها. أمّا حكاية البصل والمستنقع والهنود الحمر فلا تصدّقها فما هي سوى ضرب من التزوير والبهتان..

[وهنا قام عم سحتوت مرّة أخرى رافعاً البرنيطة عن رأسه، وكأنه سيستخرج منها أرنباً أو عصفوراً أو نحو ذلك، إلا أنه لم يكن ثمّة شيئاً ، فابتسم بمكر واستطرد قائلاً:]

لكن كلّ هذا على سبيل التقديم، ثمّ أنت سألتني عن السيّدة نادية تلك فاعرف أيها الأخ أن هذه الولية لها قصّة شرحها يطول..

[وقفت مشدوهاً وأنا أرى عم سحتوت متنطّطاً حول عربته بلباقة بهلوان محترف، وهو يحكي لي ما يلي:]

بلغني أيها المواطن السعيد، أن مدينتنا الفاضلة قد اُبتليت ثلاث مرّات بغضب الغاضب سبحانه وتعالى، ففي المرّة الأولى أنزل علينا تلك البقرة الرعناء التي سبّبت في الحريق الأعظم، الذي راح ضحيته ناس ياما، ثم طفحت المجاري من تلقاء نفسها فأطفأت النيران لكنها غرقت شوارع مدينتنا بالسوائل النتنة والروائح الكريهة، فأصيب عدد لا بأس به من الأهالي بأمراض لا تُعالج سوى برشّ الملح وهزّ المباخر.. أمّا المرّة الثانية فقد أنزل الله عزّ وجلّ تلك المعزة التي قضت على فريق البيسبول الشجاع، فكان الذي يئس وكان الذي تأفّف وتذمّر. ولم تنجو المدينة من هذه البلوة الثانية إلا بجدعنة الأهالي وقوّة عزيمتهم وثقة خطواتهم.. ولمّا كانت هاتان البلوتان قد أتتا على يد حيوانين اثنين الأول بقرة والثاني معزة، فكان من الطبيعي أن تأتي البلوة الثالثة على يد حيوان أقوى بأساً وأشدّ فتنة ، ألا وهو...

[وهنا قمت ضارباً كفاً على كفّ فعرفتُ الجواب وهتفتُ تقزّزاً]: لام واو لام واو..

نِعم الرأي يابني، نِعم الرأي. هذا هو الحيوان الثالث، ذلك الكلب العظيم، الذي يتكّون اسمه من اربعة حروف، اربعة حروف فقط لا أكثر ولا أقل. فلقد أنزله علينا ربّ السموات غضباً علينا لسبب لا يعلمه إلا الله عز وجل، فأيّ شرّ يعدّه لنا هذا الكلب، وأي ويلات يضمرها لنا.. أعوذ بالله وبه نستعين..

[صمت عم سحتوت برهة، لكنه ما عتّم أن عاد الى تنطّطه وتمثيله البارع]:

خلاصة القول يا بنيّ، أن هذا الكلب العظيم، الحيوان المدردح، لم يأتِ سوى ليعيث في الأرض فساداً، أمّا تفاصيل البلوة الآتية التي سيأتي بها علينا، فهي تفاصيل أجهلها جهلاً تامّاً.. المؤكّد، على كل حال، أنه منذ ظهوره في أرضنا الطيّبة فلقد نجحت السيّدة نادية، وهي من أقوى زعماء المافيا في مدينتنا، في ترويض هذا الكلب لأغراضها الخاصة..

[وهنا قاطعت عم سحتوت، فلقد سايرته بما فيه الكفاية إلا أنني وددت أن أفنّد بعض ما قاله فقلت:]

حسناً يا عم سحتوت. حسناً. لكني سمعت رواية غير روايتك للأمور، جاء فيها تفاصيل تخالف ما قلت عن ذلك الكلب وتلك السيّدة التي تدعى نادية. اذ أنّ هناك من يقول أن هذا الكلب لا علاقة له بربّ السموات ولا للبلاوى الثلاثة التي سبق وذكرتها، إنما هو كلب عادي نشأ وترعرع مع السيّدة نادية ذات نفسها في معهد سويسري لفنون السرقة والتشليح، عمره يناهز عمرها، والإثنان هاجرا الى مدينتنا الفاضلة منذ عشرة سنوات على وجه التقريب، وذلك من أجل سدّ الفراغ الذي ظهر آنذاك في قيادات المافيا العليا.. فسدّاه سدّاً عنيفاً..

[كفّ عم سحتوت عن تنطّطه واكتفى بهزّ رأسي موافقاً ثم قال]:

نعم. لقد سمعتُ هذه الرواية أيضاً، وقد لا تقلّ تشويقاً عن الرواية التي سبق وذكرتها لك. لكنّه يجب عليك الآن أن تكتشف أيهما الأصحّ، فتميّز الصدق عن الكذب، والصواب عن الخطأ، والحقّ عن الباطل..

أظنّك ستجد ما يساعدك في هذه المهمّة في الطوابق السفلى للمكتبة الهائلة التي نتظلّل تحتها حالياً. ... [ران الصمت برهة وجيزة، ثم استطرد قائلاً] نعم. مرادك ستلقاه في تلك المكتبة بمتاهاتها الخرافية، هذا أؤكّده لك بكلّ ثقة. لكن.. نصيحتي وحدها لن تضمن لك النجاح. بل إنك ستحتاج الى هذا أيضاً..

التفت عم سحتوت، مال بجسده على عربته المذكورة، مدّ يده بحركة ميكانيكية، سمعت إثرها اصطكاكاً معدنياً، عاد والتفت اليّ مبرزاً عكّازاً خشبياً قد حُفر فيه أربع حروف، أربع حروف فقط لا أكثر ولا أقل..

[نواصل فيما بعد!]

27 مايو 2010

غرضه الهجاء: الخطوة الثامنة

غرضه الهجاء: الخطوة الثامنة

قرص الشمس يتبجّح في كبد السماء، غمامة بيضاء تلتفّ حول بجعة بيضاء هي الأخرى، تأكلها وتمرّ، وأنا أمشي الهويدى على الرصيف في ظلّ مكتبة هارولد وشنطن. الشوارع شبه مقفرة، إلا أن ثمّة طنيناً مرحاً يتصاعد من حفلة جاز بعيدة، يتناهى الى أذنيّ.

أطلق صفيراً خفيفاً، يكاد لا يُلحظ، بينما أتذوّق وأستعذب بقايا القهوة على لساني.

وإذا بشيء لزج، رذاذ خفيف يتساقط على قبّعتي. يستبدّ بي الفضول، فآخذ أتحسّسه بيدي وأعرف أنّه مادّة رغوية حامضة، كأنها صابون قويّ..

أخلع القبّعة في الحال فأرميها بعيداً وهي تشتعل ناراً. تصطدم بعامود نور فتنفجر مرّة واحدة مخلّفة وراءها قطع قماش محروقة تتطاير في الهواء. أضع قبّعة ثانية، أحتفظ بها على الدوام لمثل هذه الظروف المباغتة، وأتطلّع الى أعلى:

غرغول أخضر صدئ، يتفصّد الزبد من فمه، يجلس فوق سطوح المكتبة الشاهقة.

هذا المبنى المهيب يصعب تجاهله. يمتدّ عشرين طابقاً الى أعلى، بالإضافة الى ثلاثة وخمسين طابقاً تحت الأرض. قليلٌ مَن سوّلت له نفسه بسبر أغواره وكشف أعماقه، التي يروى عنها أنها عبارة عن متاهات لولبية ومغارات حلزونية، حجرات سرّية قد لا تتّصل بعضها ببعض، سلالم من حديد ومصاعد من خشب قديم، يتآكل عند الأطراف..

لكنّ هناك من يتساءل: لماذا احترقت القبّعة، بينما يدك اليمنى التي تحسّستْها لم تحترق؟

فاطمئنّوا أن سرّ ذلك قد يكمن في مكوّنات تلك المادّة الرغوية اللزجة، التي بخّها عليّ ذلك الغرغول الأخضر. وهو الأمر الذي يقتضي بالطبع إجراء بعض التحليلات الكيميائية، إلا أننا مضطرون لتأجيل ذلك الى حين العثور على معمل علميّ معتمد. فلنضع الفضول جانباً، ولنكتفي بالنصرة الصغيرة التي حقّقناها ههنا. فالحقيقة أن هذه القصّة كادت أن تتكسّر وتزول، كادت أن تذوب نهائياً تحت وطأة السريالية المفرطة، والأوزان المثقلة.. أقول (كادت)، لأنّك عندما ترى قبّعتك تتأجّج، عندما ترى قبّعتك تولّع وتحترق لهباً، عندها، عندها فقط، ستدرك خطورة الأمر، وجدّيّة الموقف لا محال..

لذا عزوت الأمر كلّه الى مهابة المبنى وألغازه، وكمّلت مشواري.

لمحتُ رجلاً عجوزاً يجرّ عربة متواضعة، عليها أصناف متنوعة من البوية والزيوت. وعرفته في الحال: هذا عم سحتوت، ماسح الأحذية، ومع ذلك فهو يقضي معظم الوقت في تلميع الأكر، وبيع الأسرار. أنت تمدّه بدرهم محترم، وهو يمدّك بمعلومتين مفيدتين. تعطيه مليماً أحمر، يعطيك قصة حمراء من اللي هي، وهكذا.. عم سحتوت ورغم اسمه طلق المحيّا، مدمج الخلق وإن كان هذا لا يمنع أنه أحياناً كثيرة يستقبلك بوجه كشر. أنا أعرف عم سحتوت منذ نعومة أظافري، ومنذ ذلك الوقت لم يفارق هذه الناصية جنب مكتبة هارولد وشنطن، يتكلّم ويرغي ويفتي، ويجمع خلالها ثروة معتبرة. لماذا لم يتقاعد، لماذا لم يترك العمل، فهذا سرّه الأبدي، لا يبيعه لأحد.

أتذكّر مرّة كنت أجلس فيها مع عم سحتوت، وأنا ابن الأربع سنين أو أكثر قليلاً. كان عنده طقم من الكراسي اعتاد أن يرصّها على شكل دائرة حول عربته عند الناصية. رغبتُ فجأة في العودة الى البيت، فأخذت معي الكرسي الذي كنت أجلس فيه. عندها، عاتبني عم سحتوت وهو يصيح:

- دي بتاعتك علشان تشيلها؟ دي بتاعت ربّ السما..

احترت فيما أقول، فتركت الكرسي بما عليه - ولم يكن عليه شيء - ولذتُ بالفرار. في هذا العمر المبكّر، لا يكون للطفل - ولداً كان أو بنت - معرفة عميقة بالألاعيب اللغوية. ما يفهمه هو الحركة، والوجه، الى جانب الصوت الخالي من أي تجريد أو التواء. لذا لم أفقه مراده، ولم أستوعب مقصوده، وكانت ردة فعلي الطبيعية أن أجري بعيداً، بينما أسمع عم سحتوت وقد صدرت عنه ضحكة رنّانة، اهتزّت لها العربة بما عليها.

المهمّ، ناديت على عم سحتوت وأنا ألوّح بيديّ الاثنتين، فقد ارتسمت على وجهه علامات الرحابة والاستقبال، وبدا كأنّه يتوقّع قدومي في مثل هذا الوقت. يجب أن أصارحكم أنني لم أزره منذ زمن طويل، وذلك لأكثر من سبب. أوّلاً وكما هو معروف، لقد قضيت الشهور الماضية القليلة في غرفة مغلقة الشبابيك مقفلة الأبواب، تفصلني عن العالم حيطان من خشب أو قرميد أو خرسان ونحو ذلك. ثانياً فلقد بلغني في الأونة الأخيرة بعض ما تناقلته الألسنة وتبادلته الأفواه، ومفاد ذلك أن هذا الرجل قد ضُبط مؤخّراً وهو يتاجر بالعقاقير غير المشروعة. ومع أنني لم أكن أصدّق هذه الإشاعات طبعاً، إلا أنني لم يكن ينقصني كلام الناس اذا ما أكثرت من التردّد عليه.

- عامل ايه يا عم سحتوت [ضمّني الى صدره وربت على كتفي]

- مليح والله، مليح ..

صمتّ لحظة، تردّدت مليّاً قبل أن أفاتحه في الموضوع الخطير:

- بقولك يا عم سحتوت.. ماذا تعرف عن السيّدة نادية تلك؟

- [اكفهرّ وجهه بغتة، إلا أنه سرعان ما استرجع هندامه فافترّ ثغره عن ابتسامة واسعة وهو يقول:] استريّح يابني، استريّح.

فجلست، ثم مدّني بسيجارة وبدأ يتحدّث..


[نواصل فيما بعد!]

13 مايو 2010

وقفة ضرورية على الجمل الأزرق وبعض ما نتف من وبره

وقفة ضرورية على الجمل الأزرق وبعض ما نُتِفَ من وبره

يحلو لي بين الحين والآخر أن أتعرّض لبعض مخلوقات الله المنسية، بعض الكائنات الخرافية وغير الخرافية التي قد تمّ إهمالها وإغفالها لأسباب غير واضحة، وغير مقنعة بالمرّة. فمن هذه الحجج التي صادفتُها، والتي اعتلّ بها بعض أهل الخجل والإنكار:

أ) هذه المخلوقات خرافية، ولذا لا جدوى يُنشد من ذكرها

ب) لقد انقرضت طائفة منها، أما الطائفة الأخرى فلقد تطوّرت وتحوّلت الى أنواع أبهر وأنفع

ج) لا يكون ذكرها سوى ضرب من السحر الأسود، أو النفث في العقد، وذلك مما لا يحمد عقباه

د) بسّ يا عم ما عدتش فاهم اي حاجة تقولها

إلا أنه يسرّني أيما إسرار أن أتجوّل برفقتكم في هذه الحديقة الغنّاءة * المكتظّة ببعض ما زمجر ودمدم * وبعض ما يندّ عنه الثغاء * وبعض ما يندّ عنه الرغاء والمواء والهراء * فلنصيخ السمع، ونرهف الحواسّ * علّنا ندرك بعض ما تولّد من الجِنّة والرِنّة والناس

فلنذكر أمر العدار ونقول (أمّا العدار) فهو كما ذكر المسعودي في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر):


يعني ايه (يتدوّد دبره) يعني يجيله الدود في طيزه يا معفّن يا مسعودي الله يقرفك. لكن ما سقط عن هذا النصّ هو أن العدار لا تقتصر مظانّه على صعيد مصر واليمن السعيد فحسب بل تمتدّ الى حواري وأزقّة مدن الخليج حيث يتقمّص شخصيات بارزة أمثال ... (سقط هذا الجزء من النص وضاع..)

(وقال بعض الناس) هذا من الثقل والدناءة (ثم عارضهم البعض الآخر وقالوا) بل من الخفّة والعبث.

ثم لنذكر أمر الجمل الأزرق فنقول (أمّا الجمل الأزرق) فهو نوع من أنواع المركوب اشتهر أيام القحط والجدب والجفاف في البادية والبيداء والفيافي والصحراء ونحو ذلك. ولقد اختلف الفقهاء في سبب لقبه بالأزرق فيقول طائفة منهم ذلك لجلالة عهده ووساعة حنكته ثم يقول طائفة أخرى بل لشدّة عطشه وكثرة شربه في الواحة أما الطائفة الأخيرة فيقول الأزرق وهو لون وبره والله أعلم وبه نستعين..

وبينما يؤكّد علماء البيولوجيا وبالإجماع أن هذا النوع من الجمل قد مات وفات، انقرض واندثر، إلا أن بعض الجهلاء في الصحافة الصفراء وأقلام السفهاء لا يفتأون يروّجون للإشاعات القائلة بأن السيدة المحترمة م.غ. إنما هي محتفظة بعيّنات من الجمل الأزرق في حديقتها السرّية وأقبيتها العلمية حيث تناديهم بين الحين والآخر كي تحوّلهم الى الجمال العادية، غير اللافتة للأنظار.

واتفقّ في الآونة الأخيرة أنني العبد الفقير قد عاينت هذا الحيوان الغريب، الكائن المشيب، وعرفتُ هيئته الجميلة وقامته الأنيقة، الى جانب ملمسه الوثير وملبسه المنير. ذلك أن الأخت الشقيقة، السيّدة العفيفة زرادشت قد راق لها السفر الى مدينة نيو أورلينز، فتفقّدت أحوالها وتوقّفت على أشغالها، ومنها أشغال الفسق والدعارة والعهر والانفلات!


أَجَلْ فإنها مدينة نيو أورلينز - أو قُلْ (نالينز) وهو الأصح في لهجة سكّانها ولغوهم - الشهيرة بالفيضانات كما بالكبائر والموبقات. وذلك رغم وقوعها في الجنوب الأمريكي، المعروف بشدّة تخلّفه وحدّة تحفّظه، فتكون (نالينز) هذه بمثابة الواحة، المغوية لأصناف الحيوانات أجمعين، الخرافية منها وغير الخرافية: منهل دعةٍ يشرب منه الكثير، مورد جعةٍ يكرع منه الجمل والحمل والبعير.

يبقى فيها اللي طلع مالبيضة، واللي طلع من الرحم، واللي مسخلط وشّه بالزمرّد والزبرجد والفحم.

ولِمَ نستغرب اذن، أن الآنسة زرادشت وبينما هي طائفة بشوارع (نالينز) وأزقّتها، اذ وقع بصرها على شيء غريب، هو كنز فريد، ينبلج لمعانه من إحدى الفترينات الموجودة هناك. نمّت عن آنستنا شهقة مكتومة، توجّهت على فور الى ذلك الشيء الغريب، خطوات مسرعة تحملها الى المراد، يزيد لونه ازرقاقاً، يميل الى الكحل: ألا وهو كوفيّة مصنوعة من وبر الجمل الأزرق.

---

هذا الوبر بحوزتي الآن، ملك يديّ. الآن، تدور كل الأفلاك حولي، إذ أني الملك لويس الرابع عشر، الملك الشمس، الذي ظهر ذات يوم على خشبة المسرح، كي يقوم بدوره أمام الجمهور، ممثّلاً تلك الكتلة النارية الهائلة بظرف وامتياز، وذلك لمدّة اربعة وعشر ساعة بالتمام والكمال.

---

ولم أرد هذه التفاصيل من باب الفضح، اذ الفضح كما نعلم إنما هو تقنية خطابية تعتمد رؤية محدودة للأمور، مفادها أن الحقيقة شيء ثابت وإنْ غمض قليلاً وما خفي كان أعظم، وبالتالي ما علينا إلّا أن نكشف عنها القناع ونسقط عنها اللثام ويكون بذلك الباطن ظاهراً والظاهر باطناً. وهو الأمر الذي يقودنا الى إصلاح أنفسنا بل وإصلاح المجتمع والارتكان الى ركائز العالم الطوباوي الآتي الآتي الآتي... وأي نوع من الإصلاح هذا، الذي يتّخذ الحيوانات الفاضحة سلاحاً وأي سلاح، في حملة استعمارية ماجنة، هدفها إثارة الفتنة وزعزعة الاستقرار؟

وآدي البيضة وآدي اللي شواها وآدي اللي قال حلوة أجيب حتة لماما!

05 مايو 2010

غرضه الهجاء: الخطوة السابعة، وهي الانطلاق

غرضه الهجاء: الخطوة السابعة، وهي الانطلاق

لكن حان الوقت، بعد مرور ما يقارب الشهرين ، أن أخرج من ذاك الكهف المعفّن، فأجرّب حظّي في مراتع البشر المعتادة، المحفوفة بالأخطار والألغام..

نهضت بصعوبة بالغة كأنما قاطرة بكامل عرباتها قد مرّت على صدري، فتهشمّتْ عظامي و تفعّصتْ بضعة أعضاء من الجهاز الهضمي، المثخن بالجراح والآلام. نهضت وأنا أرى تلك القاطرة ضاربة في الابتعاد، تتلألأ أضواؤها الغازية بوهن وخفوت، في الأفق. أما السبنسة فتتباطأ قليلاً، وكأنّها غير مربوطة بسائر العربات المتسلسلة. هي عربة عنيدة تحرن وتثور.. أكاد أجزم أنها تحمل ذلك الكلب العظيم، الحيوان المدردح، سارق حذائي ودمي.

جُلت ببصري في أطراف الغرفة: أكوام متناثرة من الظروف الحمراء المفتوحة، تتراكم حولها قصاصات رفيعة من الورق الأسود. شبشب مهترئ يتصارع عليه الإهمال والنسيان، يرقد هناك. زجاجات نبيذ مرصوصة بعناية مريبة تحت الشبابيك، بعضها فارغة وبعضها نصف فارغة. ثعبان أزرق يبتسم بمكر، يلتفّ جسده حول فناجين القهوة الخمس، المبتسمة هي الأخرى.

هناك شيئاً ما، يبدو غريباً، لا يليق بالمشهد . إلا أنني لم أعد أهتم.

المهم هو حذائي.

لملمتُ في الحال أعضائي المبعثرة على الأرض: هذه الكمثرى الخضراء هي مرارتي، وهذه المعكرونة اللزقة هي حفنة من مخّي. أمّا ذلك السمك المنتفخ، فلا شكّ أنه طرف يسير من كبدي. مثل هذه الفواكه ضرورية لحياة الإنسان، يعتمد عليها المرؤ اذا ما رغب في مسيرة طبيعية في الأزقّة الطرقات.

بلعتها بسرعة كي تعود كل واحدة الى محلّها، عسى أن تكتمل طاقتي الجسدية في أسرع وقت ممكن: فإنّه أمامي الآن

ملحمة أسطورية،

ورحلة فسفورية،

أجازف فيها بحياتي كلها.

أيها القوم: إنّي سأتكبّد تصاريف الدهر، وأتحمّل الشقاء والقهر. كلّ هذا - أيها القوم - في سبيل المعرفة والحق والنور والغذاء، وإذا كسبتُ - الى جانب تلك الأغراض - شيئاً من المجد فلا ضير في ذلك. هذه هي مهمّتي المحتومة لا شك فيها، هي قسمتي ونصيبي لا فرار منها،

اللهمّ فاشهدوا :

أفخاخ منصوبة في الطريق، تتجمع الغيوم حول كهوف الجنّ والعفاريت، رعد وبرق وشتاء في الجبال، حفيف خطير يتصاعد من أوكار تمليت وجبليت: الأوّل على صورة الأسد والنسر، والثاني على صورة الذئب والخرتيت.

فلأشهر سيفي البتّار، ولأجهّز الفيسبة بالحجارة والشرارة والنار.

أقوم وأصيح: فداك أيها الحذاء المفقود! حلفت إني لأنتشلنّك من براهن الغدر والإجرام، ولأرجعنّك الى أيام الرجولة والفحولة والإكرام. حذار أيها الخونة والخائبين: إني الى قوم سواكم لأميل!


[نواصل فيما بعد!]

01 مايو 2010

أصلي وفصلي (2)

أصلي وفصلي (2)

مشاهدينا الكرام: تحيات طيبة وأشواق ثيّبة (من ثيّب وهي الإمرأة غير العذراء) وبعد،

لقد أكل آدم من تلك الشجرة هو وزوجته، فوقعا بذلك في الخطيئة وجعلهما الله سبحان وتعالى عبرة لمن يعتبر وهكذا.. فما أصل الإنسان إلا خطأ مملّ، عرفناه وسمعناه كتير قوي حتى زهقنا، نعدّيه خلاص ونرجع نعيش..

فاعرفوا أيها المشاهدون أنه حتى الملك عبد الله يتلخبط في قراءة النقط والإعراب (كما ذكرت يا محمود)، فما بالك بمدوّن غلبان، طفل بريء، اذا ما ارتكب خطأ صغيراً في فنون المطالعة والتفسير.

فلقد نشرتُ على هذه المدوّنة المتواضعة وثيقة تثبت أصلي، مخطوطة توضح فصلي، هي بمثابة شهادة ميلادي التي تبدّد الشكوك الرائجة حول نسبي وحسبي، اللي هو عربي طبعاً. فقد جاء في تلك الرسالة المسمّاة هزّ القحوف في شرح قصيد أبي شادوف بعض الأسماء القبيحة نعم لكنها أصيلة عريقة، منها زعيط ومعيط وكسبر وقفندر، وأخيراً وليس آخراً المسمّى بنبن.

أو هكذا كان يبدو.

الحقيقة التي اكتشفتها مؤخّراً هي خلاف ذلك، فما من بنبن ولا حتى جنبن، أتاري ده كله خطأ مطبعي ناتج عن سوء نسخة البي دي إف اللي كانت عندنا. فإنّي وبفضل حب الاستطلاع قد طلبتُ من المكتبة النسخة المنقّحة للمخطوطة والتي تمّ إعدادها منذ حوالي خمسة سنوات على وجه التقريب. واليكم بهذه النسخة الواضحة الجلّيّة كما هي:







(وفي الهامش)





وهذا الأمر كلّه يذكّرنا بالفضيحة الكونية الكبرى التي أطاحت برأس المذيع المحترم دان راذر، فرَمَتْ به الى البوتقة ثم الى المقصلة، في قضية تتعلّق بوثائق عسكرية تخصّ الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الثاني. لم تكن هذه الوثائق تخصّ أصله وفصله - فهذا أمر مقطوع به حيث أن الكل يعرف أن الرئيس هو ابن كلب وأمّه ضبعة من الضباع الشرسة - إنما تدور قصّته حول الخدمة العسكرية التي كان يزعم أداءها في القوات الجوية منذ حوالي عشرين سنة. وقد ظهر الأخ دان ذات ليلٍ مشؤوم على الشاشة، وبيده هذه الأوراق القائلة بأن هذه الخدمة وذلك الأداء لم يحدثا إطلاقاً - إلا أنه اتضحّ فيما بعد أنها أوراق ملفّقة أو مزوّرة أو شيء من هذا القبيل. ونتيجة لذلك قدّم المذيع المحترم استقالته لمجلس إدارة شركة سي بي إس الإعلامية.

لكني أيها المشاهدون لستُ دان راذر، ولستُ عجلاً رضيعاً خانعاً مثله، لا أخضع ولا أستسلم لضغوط يمينية كانت أم وسطية (ربما أخضع لضغوط يسارية لكن هذا ليس قضيتنا اليوم)، ولذا سأبقى في منصبي هذا الذي رفعني اليه الشعب وكرّسه سيّدنا البطريرك مارّ نصر الله بطرس صفير.

ولكن المفاجأة الكبرى - أيها المشاهدون - هي أن محرّر هذه النسخة ليس سوى المترجم الحكيم، المستعرب الرزين همفري ديفيز ذات نفسه، الذي التقيت به منذ وقت قصير جداً في نادي المثقّفين (قال مثقفين قال) بوسط البلد. وكان تبدّى لي آنذاك رجلاً متواضعاً ، لا يكنّ لي سوى المودّة والإكرام، فلا يتكلّم عن نفسه كثيراً إنما يستمع ويستفسر، ومن حين لآخر يطلق بعض القفشات الظريفة، ليس مباشرة إنما عن طريق الغمز واللمز..

فربما يكون الأمر مؤامرة عالمية عظمى يديرها هذا المترجم، غيرة منه أن اسمه هو ليس عربياً لا من الناحية القحطانية ولا من الناحية العدنانية، يعني انت مين يا استاذ "همفري" دا لقب انجليزي بامتياز ملوش أصول أعرابية بأي حال من الأحوال..