19 أغسطس 2012

فكّ الله سجنك يا أوري

فكّ الله سجنك يا أوري

في الرابع والثلاثين من شهر تلاتاشر المِتْعَوْكَش ، والوقت ما قبل العصارى أو بعدها بمقدار غير ملحوظ، كان جالساً القرفصاء في مكتبه المكتظّ بعدد متزايد من النمليات أي الخزائن الطولية التي بها درفة أو درفتان وتحفظ بها الأشياء ، يتنفّس من الأعماق ويمارس ألوان شاذّة غير مباحة من الفنون اليوجاوية، هذه انحناءة تكشف له ما تحت التربيزة، وهذه طأطأة من رأسه تزيد الرؤية إعوجاجاً وانبعاجاً، أمّا هذه فوقفة صامتة تعلّقه في الفضاء بحيث لا يلامس طرف من جسده لا الأرض ولا السقف، يحلّق، هذا وضع دقيق جداً ويتطلّب منه التركيز الكامل والصفاء التامّ وإلا كان من المحتمل جداً أن ينهار كل شيء، النمليات، الملفّات المرصوصة فوق التربيزة، الشجيرة اليابانية المجلفنة حديثاً، حوض السمك، ماكنة القهوة والطماطم المجفّفة، حتى هو قد ينهار لو فقد هذا التركيز الذي لا يضاهيه شيء..

غاب عنه الوعي أو بالكاد، هذا إنجاز، فقط الأصوات تصله الآن عبر حاسّته الوحيدة التي لم ينجح بعد في ترويضها ولا في تلقينها درساً، ظلّت عنيدة تقاومه، فرّت من أصفاد الزهد والتركيز، لذا كان في تعلّقه هذا في الفضاء عرضة لخطر واحد، السمع، الممر الذي قد يتسرّب إليه طرف من الموجودات، أو ثقلٌ ظواهري كما يسميه، حينها، سرى في مفاصله وهنٌ، وانتابته رعشة من الفزع الممزوج بعكارة الاسنتفار، هذا كله ناجم عن إدراكه بأن حاسّة السمع قد تقضي عليه، لذا شدد الحزام وعزّز التركيز وأمعن في البصر إلى بقعة ثابتة لعله يتفادى أمراً محتوماً..

حينها، حينها فقط، جاءه هاتف.

اللعنة! قال.

ليس من الضروري أن أصف لكم كيف كان سقوطه إلى أرض الواقع – لا ليس سقوطه، بل زلّه، المؤكد على كل حال أنكم تعرفون زلّه أو سقوطه والصوت الذي أحدثه ارتطامه بالبلاط _ أو الخشب إن شئتم _ ها هو قد زلّ فسقط فهبط ، ثلاث مرّات، هذا لأن تركيزه وتعلّقه في الفضاء كان مثلثاً، فالزلّ أيضاً مثلّث، هذا كلّه مردّه ذاك الضعف في حاسّة السمع التي لم يتمكن بعد من ترويضها ولا تلقينها درساً.  فقد جاءه هاتف.

لكن أي هاتف هذا الذي يرنّ؟

بحث عنه في جميع النمليات، هناك هاتف أي تليفون بداخل كل نملية، لا يدري أي هاتف يرنّ،
والنمليات بعدد نوابت الفطر في يوم رطب ومهبب، أمّا الهواتف المشحونة بجوفها فحدّث ولا حرج..
ثمّة ، على أقلّ تقدير ، ثلاثمئة وخمسة وستّون نملية، إذا ما استثنينا الدولاب القائم بنفسه – والدولاب على أية حال ينشقّ عن فصيلة أثاثية غير التي تنتمي إليها النملية ولا تنبت في العادة في نفس المناطق – ثمّ أنّ هناك لكل نملية درفتان إذا فتحتم احداها ستجدون بداخلها أربعة رفوف، وعلى كل رفّ ستجدون عدداً من الأجهزة الالكترونية التي لا يُعرف غرضها على وجه التحديد، مرصوصة بعناية ممرّضةٍ شمطاء، وبين هذه الأجهزة، إذا وفقكم الحظّ، ستجدون هاتفاً يرنّ، تلتقطونه فيوصّلكم بالطرف الآخر من الخيط، والخطّ أحياناً.
كان عليه أن يتقلّص ويكشّ فيتضاءل حجمه إلى حجم الوريقات المتساقطة من الشجيرة اليابانية – المجلفنة حديثاً – إذْ رغب في التقاط ملقط الهاتف بأسرع ما يمكن، هكذا يتسنّى له مرونة الحركة والانتشار.

أيّ هاتف من الهواتف يصدر عنه هذا الرنين؟

لا أطيل عليكم: التقط الجهاز بسرعة الفطر النابت، قال أفندم؟

قال الهاتف إنّه يتوجّب عليه أن يجمع بين أوري وبين توفيق عكاشة في قصة قصيرة جداً، أو قصيدة نثر، أو غيرها من الأشكال النثرية الوروارية،

قال فرغتُ من أمر عكاشة ولن أعود إليه، أما أوري فاسمع جيداً أيها الهاتف البذيء:

***

تعتبر إنديانا من ولايات السهول الأمريكية، وإن مالت كفّتها نحو كفّة أوباما في الانتخابات الرئاسية الأخيرة فهذا لا يمنع أن تكون موطناً للجرابيع والكلاب الضالّة، مظاهر الحضارة الوحيدة فيها تجدونها محاصرة منحصرة في فقاقيع جدّ الرقّة بعدد البجعات في حفلة القروش، اُستدعيتُ مرّة إلى احدى هذه الفقاقيع من أجل لقاء مهمّ مع كهنة المتنبي وأبي تمّام، لم يمسَسْني سوء خلال هذا اللقاء، وإن لم يمسسني خير أيضاً، خرجتُ منها ولم أعُدْ.. شيء آخر عن ولاية إنديانا: يميل أهالي تلك الجهة إلى نطق حرف الـ\ɪ\ بدلاً من حرف الـ\ɛ\ إذا ما وقع قبل إحدى الحروف الأنفية، وهو الأمر الذي كان يسبّب لي بعض الحيرة في التمييز ما بين الرقم عشرة وبين الصفيح، أو بين القلم والدبّوس، أو حتى التمييز بيني أنا وبين الصندوق، يا للغرابة.  الغرض: خرجتُ منها ولم أعد، لذا ارتبكت حين سمعتُ بوفود الرفيق أوري الأحمر إلى تلك الجهة، أي انديانا، بل اُسْتُدْعِيَ إلى نفس القفاعة (أظن أنني عرفت تشكيل « اُسْتُدْعِيَ » لأول مرّة في تلك الفقاعة، وذلك بفضل مَن سمّتْ نفسها بالمستقيمة باللغة الأوكرانية، جُعلتُ أنا فداها ولها الشكر إذا ما صادفتْ هذه السطور لا سمح الله). الغرض: خرجت منها ولم أعد، لكني استغربتُ كل الاستغراب حين سمعتُ باستدعاء أوري إلى تلك الجهة، ولهذا تفصيل.  

غابت عني أخبار أوري وإن لم يغب عن ذهني، خشيت أن يجري له مكروه في تلك الولاية الحمراء، وإن كان هو الآخر أحمر فنحن في بلد اختلطت فيها الرموز والإشارات، فصارت الليبرالية تعني اليسارية (إن وجدت) وصار الهجوم المسلّح يعني حقّك المكرّس في المادّة الثانية الملصقة بالدستور، أمّا الأحمر فصار يعني محافظ من الحزب الجمهوري وكأن الاشتراكية امّحت عن الذاكرة الجماعية، الحقيقة أن أوري قدها وقدود، منبع الخوف الوحيد لديّ أن يختلط عليه بعض الأمور، فرغم أن تلك الفقاعة كانت تؤوي منذ عقودٍ معملَ الأستاذ الدكتور ألفرد كينزي وتجاربه الأسطورية في فنون المضاجعة وعلوم النكاح ، إلا أن كل ذلك امّحى أيضاً عن الذاكرة الجماعية، واندثرت حفلات الطواف والمجون في الشوارع التي أقيمت عبادةً للرقم عشرة (وقيل هذا من ترّهات الفسّاق، ولم يحدث شيء من ذلك، إنما أقيمت الحفلات إشباعاً للإلهة عشتار، فحرّفها العامّة إلى عشرة، والتي تعني في الأصل «صفيح»، ولم يتأكّد من ذلك).  خشيت أن يختلط على أوري بعض من هذه الوقائع التاريخية، فيظنّ أن الفقاعة مكان يبتسم للطماطم المجففة، وجبن المعز، وعلامات أخرى للحضارة.. والحقيقة أنها فقاعة تبتسم نعم، لكن على السطح، وفي بعض قاعات الجامعة.

العجيب أيضاً في تلك البلدة، أنك تجد فيها مكتبات تفوق وتتفوق على المكتبات القليلة المتواجدة في أراضي عوسطنة على سبيل المثال، فهذا شأن فقاقيع المحافظات تجدها تذخر مفاجآت حضارية
عجيبة، كما أنني أذكر أن مجلس البلدية أصدرت بياناً رسمياً اسنتكاراً للحرب على العراق، وأقرّ حدّاً عادلاً للأجور، كما أذكر أنه أشيع في تلك الأيام أن الاستخبارات الأمريكية أطلقت طائرة حربية للتنصّت على بعض الطلبة هناك، ولكن..

رغم ذلك كلّه، ما زالت الشوارع في تلك الفقاعة تعاني من ظاهرة غريبة هي عبارة عن فامبيرات – أي مصاصين للدماء – متجولين في عربات احدى المنظمات الصحية، والأغرب أنها تظهر في ضوء النهار، تصول وتجول وتختطف الذين يتمشّون بالشوارع على غير هدى.

لم أخفْ على أوري من شيء، قدر ما خفتُ عليه من هذه الفامبيرات المتجوّلة بالعربات، فيظنّها أماكن للتطوّع بالدم مثلاً، بينما هي في الواقع أماكن للخطف والسلب والبعبصة والاستشهاد.

جرت شائعة في مواقع الاتصال الاجتماعي أن أوري تمّ حبسه في معمل الأستاذ الدكتور ألفرد كينزي بعد اختطافه على أيادي عبدة الصفيح، وقيل الرقم عشرة، وقيل عشتار، وسرى همس بأنه يتعرّض لألوان شاذة من الفنون اليوجاوية، وأنه تُجرى عليه تجارب نكاحية أعدّ لها الأستاذ الدكتور في كتابه الرابع الذي لم يصدر .. فاقتحم الأهالي معمل كينزي وأحرقوه لكن ذلك لم يسفر عن شيء، ولم تظهر للخبر صحّة، قلتُ لهم هذا غباء، الأستاذ الدكتور توفي منذ سنين الله يرحمه.  أما الجنس فلا يُمارس أصلاً في هذه الفقاعة.

بعث أوري برقية للصحف مؤكداً أنه تم اختطافه على آيادي الفامبيرات المتجوّلة.  وقد تمّ حبسه فعلاً، لكن تفاصيل الواقعة على خلاف ما يروى بين المتندرين والمتلمظين شفاههم.

وتبيّن أنه قد حاول التفاهم معهم، ودعاهم إلى التعقّل، قال إنه يتفهّم رغبتهم في دماء البشر، لكن الاختطاف يخالف الأدب، بل والذوق، ثم يسعده أن يجلب لهم وعاء به قطرات طازجة من دمه لكن المصمصة من جلد العنق مباشرة حرام شرعاً، وتسيء إلى سمعة البلاد،

حينها قامت شيخة المنصر وهي متنكرة بهيئة ممرّضة شمطاء قائلة: لدينا أوامر من القيادات العليا بالقبض عليك لأنك تجرّأت على التحدّث معنا، فهذا ويسبّب لنا الحرج، بل والخجل، وحقّ الصفيح إنني لقابضة عليك!

لكن الله أراد أن يفكّ عن حبس أوري بعد مرور شهر على تلك الواقعة، فأرسله إلى بلاد غير هذه البلاد، حيث تنفس من الأعماق سعيداً بالهروب من الفقاعة قبل ذوبانها.

-الصندوق

---

تحديث: بعد قراءة هذه التدوينة مرّة ثانية أدركت أنها تذكر البعيد توفيق عكاشة مرتين، ولعلّ القصد من ذلك محاولة مضغ بعض الألفاظ البذيئة وبصقها على الورق الالكتروني، وليس ثمة ما يربط بينه وبين أوري على ما أدري. أما ولاية إنديانا، وتحديداً بلدة بلومينجتون، فهي مكان حقيقي تجري فيها أحداث قريبة جداً من الوقائع المذكورة ههنا.