17 أكتوبر 2012

ذمّ السخام والتحذير من السخمة



ذَمُّ السُّخَامِ وَالتَّحْذِيرُ مِن السَّخَمَة

سبحان من خلق ومن صوّر، المدوّنة دي أخيراً جالها اول سخام فضائي، ويسمّونه بلغة الفرنجة "سبام" بسكون السين وتفجير الباء، إنه لشرف كبير أن نمرمغ صفحاتنا المشرقة بهذه المادّة اللزجة المنافرة للمناخير والأخلاق الحميدة، ومن أوستورايخ كمان، أنا عن نفسي مش ناوي أزور موقعهم بس شكلهم شوية زبّالين من الطراز الديني، ربنا ينصرهم ويفطروا على ريحة الزلط المجلفن إن شاءت الآلهة.

ونعلم ان الخالق قد رفع بعض المدوّنات فوق بعضها درجاتٍ لعلّها ترزق بما لم ترزق به غيرها وإن كانوا مجلفنين.. والمعلوم كذلك أن أعلى درجات المدوّنات هي التي تجذب السخام وتغريه إغراء السبانخ لقطعان القراميط في يوم بخّاخ ومهبّب.

ولما انتشر السخام في أرجاء البسيطة وأعماق البحار رأى أرباب القوم أن يواجهوه مواجهة شرسة بغية استئصال هذه الأورام الخبيثة واجتثاث الجراثيم الظريفة، ولم يكفِ أن يقولوا لها بطّلي ظرف، لأ، كانت الإشكالية أعوص من ذلك بأرطال، في مثل هذه الحالات لا تنفع المواجهة المباشرة لا، الأمر خطير ويقتضي أفعالاً خطيرة، لذا تفنّنوا في الميثولوجيا، وسلكوا دروباً في المروت الموحشة والأراضي المقفرة، فأقاموا الأصنام وأنطقوها إنطاقاً ليعلموا القوم أن الخطر الجسيم والعقاب أليم نعم أليم، ثم ما كان منهم إلا أن أشعلوا في أصنامهم النار وعلى طقطقة الخشب المتآكل لهباً ولمعاً جعلوا يسمّونها هذا شنقناق، وهذا شيبصان، وهذه سملقة وهذه زوبعة، وهذا شقلون، وهذا مرمطون، وهذا كان وكان وهذا خونرت بام، أما هذه الأخيرة، الشقية المنتشرة، اللبؤة الشرسة فلنسمِّها سخموط بفتح السين وسكون الخاء وإطلاق الميم بعد سدّه، أمّا الطاء فيُنطق إذا عرفتَ إلى ذلك سبيلاً، ويُترك إذا كان المطر هاطلاً هطيلاً، ففي ذلك هلاك مبين إن خالفت.

وتسألون عن سخموط، وما أدراك ما السخموط، قل أنتِ اللبؤة المجرجصة، الصائدة المعرّصة، أنت الحرباء الفوّاحة والواطية الردّاحة، تتقصّع وتتلوّى، تستشري وتتهوّى، أنت الواغلة الواغشة العاكشة المتعوكشة (من عكاشة)، تتقاطر زبداً وزغروطاً ،تسيل دماً عبوطاً، أنت النفاثة في العُقَد والبثاثة للحُقَد، جاءت أيامك بيضاء لما كانت سوداء، وكأسك صهباء لما كانت صفراء، جك قرف يا شرشوح يا للي ستين منك بلحلوح! هيهي.

وهذا دعاء الذمّ، وإذا أردتُه مدحاً فغيّر من لهجتك يا قاسي يا بارد.

والثابت عندنا أنهم سمّوا السخام بالسخموط لكثرة السخمطة فيه، وهي كلمة يشرحها لنا الأستاذ الدكتور يوسف زيدان في كتابه كلمات: التقاط الألماس من كلام الناس إذ يقول:

رحتُ أتساءل ما بين نفسي ونفسي عن معنى هذا الفعل سخمطة ... وبلطف شديد، سألت أمي عن معنى الكلمة فقالت: بس يا ولد! ولم أفهم شيئاً . بعدها بأيام، وبلطف أشدّ، اقتربت من أحد أخوالي، وسألته عن معنى سخمطها فقال زاعقاً: بس يا ولد. (65)

ولأني أرى للاستطراد والاستفاضة فوائدة عظيمة، فلا بأس أن نتفكّر قليلاً في هذه الأزمة الدلالية التي مرّ بها الأستاذ يوسف زيدان وهو في العاشرة من عمره، إذ تناهت إلى مسامعه كلمة بذيئة لم يتبيّن معناها ولا مغزاها، فذهب مستفسراً مستجدياً إلى الأمّ.  ولماذا يا ترى ذهب إلى الأمّ؟ أولّاً لأن الأمّ هي مصدر اللغة والقادرة على فك شيفراتها المستغلقة على العيل الصغير المتلعثم. وبالإضافة إلى ذلك من الجدير بالذكر أنه لم يسأل عن المعنى فحسب بل أراد فهم الفعل، قال "معنى هذا الفعل سخمطة" ولم يقل "هذه الكلمة سخمطة" وفي ذلك دلالة مؤشّرة وحثالة مقشّرة.  علشان يوصل لجوهر المعنى كان لازم يعرف السخمطة تتعمل ازاي، لذا كان الردّ مناسباً مفيداً: بس يا ولد، والبسّ معناه بوسة.  ثمّ ذهب مهرولاً إلى الخال وليس العم، لأن الخال يقرب للأمّ وإن طرح السؤال بلطف شديد هذه المرة فهذا لم يمنع أن يجيء الردّ واعظاً رادعاً، مما أحدث عنده بلبلة في التفكير وتساؤلاً دائماً عن المعنى المقرونة عنده بالعنف والأهمية فظلّت متهرّبة منه في غياب الأب\الأصل، الذي دفعه إلى الانشغال بعلم الاشتقاق فيما بعد. ويقول:

ومضت سنون طوال، ثم سمعتُ الكلمة مرة أخرى، في سياق آخر، ورحت أفكر في الأصل الذي جاءت منه سخمطة، فبدا لي أولا أنها استخدام عامي للكلمة الفصيحة (السخائم) وأنها مشتقة منها على نحو خاص. غير أن السخائم التي هي الكراهية المكبوتة والغل الأسود ترتبط بالشعور الجواني الكظيم، لا بالفعل البدني المروّع، ومن ثم فهي بعيدة عن السخمطة، وإن اشترك في الكلمتين حرفان من أقوى الحروف العربية نطقاً: السين والخاء. وظلّت الكلمة تخايلني، وظللت أتأمل معناها ومبناها، حتى طفر في ذهني فجأة أصلها القديم: سِخْمِتْ. (66)

المهم بالنسبة لنا أن نفهم أن الآلهة سخمت دي كانت أروبة، بتنزل في الناس سخمطة وبهدلة وويلاتٍ عظيمة، اقترن اسمها بالحروب والدبح، لذا يقول الأستاذ يوسف زيدان أن سخمت ولدت سخمطة وهي كلمة مرتبطة بالهلاك ومفادها النكاح غصباً.  ولهذا كله لم تكن تسمية السخام بسخموط ببعيدة بل كانت بمناسبة ملائمة تفيد بالغرض.

لكني أرى للاستفاضة والإسهاب والرغي والإطناب فوائد ضخمة، فأقول: إننا في هذه الفقرة الطافحة بالمعاني المتخابطة نرى الأستاذ يوسف زيدان وهو يروي لنا رواية ظريفة عن هوسه بالتأصيل، الذي أراه منبعثا من حاجته إلى الأب المفقود/غير الظاهر، وإثبات نسبه ونسله وأصله وفصله.  لكنّه لن يصل إلى هذا الثبات، فيقول "طفر في ذهني" والطفرة فرع وليست بأصلٍ، ثم يُرجع الكلمة إلى الآلهة الفرعونية سخمت، بعد إبعاده للأصل العربي الفصيح.  ذلك أنه في غياب الأب لا يجد معنى ولا ثبات في لغة الإله العربي الواحد، بل يذهب أبعد من ذلك إلى بلبلة الآلهة القديمة فيثبت عنده أن السخمطة من أصل هذه البلبلة، بل إنها من أصل إلهي وثني متعدد الأشكال، سخمت نفسها تتلون وتتغير حسب الموسم والعبد ومحصول الحصاد، رأسها لبؤة وجسدها بشر. إذن لقد وصل إلى تعدّد ولا توحيد، واكتشف تنوعاً متبدّلاً لا ثباتاً متكوّناً.

إشفاقي كله على يوسف ليس لأنه لم يصل إلى الأب، إنما لأنه نظر في الاشتقاق والتأصيل سبيلاً إلى المعنى، وبهذا نبذ الحياة الدنيا وهرب إلى الحروف والتاريخ، فغفل عن الحياة والتجربة والاستعمالات اليومية التي تولّد المعاني أصلاً، السخمطة وغيرها من الكلمات تولد وتتوالد وتفرّخ وتتفارخ في سياق الشد والجذب، والعبث واللعب، والنقاش والوفاق على هذه الأرض المسخمطة بترابها وسخائمها المتلبلبة الدسمة المتنفسة. ومعنى هذا كلّه، إن صح كلامي، أن الفعل سخمطة ما زال مستغلقاً على الأستاذ يوسف زيدان، وأن السخمطة بعيدة عنه كل البعد، والحمد للآلهة توحّدت أم تكاثرت. إنه الأستاذ يوسف زيدان بكر لم يمس، ولم يمارس هذا الفعل النكر ولم يُمارَس عليه.

لكن ذهبنا بعيداً عن الغرض، فكان القصد أن نفهم العلاقة بين السخام الذي أصاب هذه المدونّة وبين الصنم سخموط الذي اُختلق بغية القضاء على السخام رمزياً وروحياً.. نفسيات الأستاذ يوسف مثيرة لكن ما أريد إبلاغه هو أهمية تحويل السخام إلى صنم، وهو سخموط، وقد تلوتُ عليكم أيها المصابين بالسخام الدعاء اللازم لمواجهته، فذممت السخموط وحذّرتكم من السخمطة.