28 يونيو 2012

الساقي

الساقي

خَرَجَتْ نَادِيَةٌ تَتَنَزَّهُ بِقَيْصَرِ
وَفِيدُوٍّ وَجَاكٍّ وَالْكَلْبِ الْعَيْسَرِ

هو هـيكتور هـيو مونرو، ينتمي إلى الجيل الضائع من الغنادرة (والواحد منهم: غندور، وقيل أيضاً هم المنحطّون) السادر في غيّه السابح في حقبة الترف والبذخ في انجلترا عشيّة الحرب العالمية الأولى، مثله في ذلك مثل أوسكار وايلد وأمثاله، شقي واستعراضي وذو طابع طرخشقونيّ.
وقد لقّب نفسه "ساقي" وهو اسم استوحاه من رباعيات عمر الخيام الشهيرة في أوروبا في ذلك العصر، كما أنه إشارة خفية إلى التباسه الجناسي والأدبي حيث أن شخصية حامل الكأس هو العابر بين قطبين، قطب اللاهوت وقطب الناسوت، يسقي السائل الأصهب المسروق لينزل إلى البشر تنزيلاً مقدساً ويبشّره تبشيراً منتشياً.


ورغم إعجابي بفكرة الغندرة واحتمالاتها اللانهائية، إلا أنني لا استطيع القول بأني استقي من هذا الكاتب أنموذجاً لممارسة الحياة، ذلك أن توجهاته السياسية مكروهة بالنسبة لي حيث انه مصاب بداء الرجعية الساخرة العنيفة غير المبالية والتي تجعله يسبّ النسوية ويتهكم من الاشتراكية كما انه ينبذ التكاتف الاجتماعي على أنواعه ويشمئزّ منه، ثم إنه دعا إلى الحرب الضروس التي مات فيها فقد أصابته رصاصة طائشة وهو مخندق في خنادق فرنسا وكانت كلمته الأخيرة: طفّي السيجارة يا غبي!
هذه الرجعية التي بينها وبين العدمية المطلقة شبر قصير وقصير جداً، رأيتها لدى الوهلة الأولى تتناقض وميوله المثلية في الجنس، ثم قلت في نفسي مستدركاً بل لعلّها نتيجة طبيعية لانغلاق المجتمع آنذاك، والتشاؤم النرجيسي الناجم عن حياة قضاها بين الظلّ الفاتح والظلّ الغامق لكن الاتنين ظلّ برضو فما العمل، ثم قلت في نفسي مستدركاً استدراكة ثانية إن كلّ هذا تبسيط مخلّ للأمور، وإنّ المثلية الجنسية موضوع يختشي منه الكافر والمؤمن والمفروض الا نتكلم عنه هكذا لأن كل واحد عنده مصلحة وكده ونحن نخشى الاستعراض والتراشق بالتسامح المزيّف المعروف عند البورجوازية الصغيرة والمتوسطة والفاميلي–سايز .. كل هذا دار بخلدي وأنا بعدي تلميذ في السنة الأولى أو الثانية في الجامعة أستكشف بهجة العالم وأجرّب كافّة ألوان الغندرة بين كأس وسيجارة وخندق وظلّ ..
والحقّ ان العديد من الروائيين والأدباء الذين أعجب بفنّهم إلا أنني أجد أفكارهم السياسية المعلنة بغيضة مكروهة غير محبّذة، جمال الغيطاني، الجاحظ، أنثوني بورجيس على سبيل المثال لا الحصر..
لكن كل هذا غير مهمّ، نحن لا نقرأ الروايات علشان نتعلّم أكثر عن الاشتراكية أو الرأسمالية أو النيو-ليبرالية، بل إننا نقرأ الروايات – أحياناً – علشان نعيد صياغة ما هو سياسي وما هو أدبي، وعلى هذا النحو نستقي دروس سياسية مفيدة من كل هؤلاء، نتعلّم من أنثوني بورجيس مخاطر المزيكا الكلاسيكية في خدمة الدولة التربوية الانضباطية، نتعلّم من الجاحظ – والغيطاني أيضاً – شيئاً من الإيرونيا، والرسائلية، وأخيراً وليس آخراً السجع وهو فعل سياسي بالدرجة الأولى، يزعزع تركيبة الجملة المهيمنة ويؤجّل الالتجاء إلى أغلال المعنى الثابت المحدّد.


ومن الساقي نتعلّم الكثير أيضاً.  ومن آي ذلك ما يأتي في قصته " بنت عمّك تيريسا " – والتي آثرت تعريبها فعنونتها " نادية " كما في القصيدة أعلاه.  وفي هذه القصّة التي أترجم فقرة منها نتعلّم كيفية صناعة الدودة في آذان الناس، أو الـ"أورڤورم" كما يقول الألمان.  " نادية " هي قصة شاب ثلاثيني ضائع واسمه لوقاس، يعبث كغيره من أبطال "ساقي" في جوّ من التخاذل الارسطوقراطي العبيط، وهو منشغل طول الوقت بطبخ الأفكار الموسيقية العظيمة التي كثيراً ما تبوء بالفشل، إلا أنه هذه المرّة ينجح نجاحاً باهراً ويسحر شعب لندن العظمى بأغنية عصماء فينتهي به المطاف إلى تكريمه فارساً من فرسان الممكلة، وفي هذه القطفة يروي لنا لوقاس لحظة الوحي التي تمخّضت عن هذه الأغنية-الأورڤورم.

- واتاني الوحي حينما كنت أرتدي ملابسي صباحاً، هكذا تولّدت بذرة الفكرة في ذهني، وستكون حدثاً جللاً في سهرات لندن الموسيقية عمّا قريب.
هكذا أعلن لوقاس وقد أخذته نوبة من النشوة والاندفاع الجريئان، فاستطرد قائلاً:
- وسيجنّ جنون لندن برمّتها.  هما الآن بيتان اثنان فحسب، وسأضيف كلمات أخرى فيما بعض لكنها ليست مهمّة. اسمع:

خَرَجَتْ نَادِيَةٌ تَتَنَزَّهُ بِقَيْصَرِ
وَفِيدُوٍّ وَجَاكٍّ وَالْكَلْبِ الْعَيْسَرِ

هي نغمة فيها من الخفّة قدر ما فيها من الجذب والإغواء، نعم، ونختمها بثلاث دقّات على الطبل تتزامن مع حروف "عيسر" – عَيْ-سَ-رِ . تك تك تك.  إنّه لحدث جلل، نعم.  ولقد تروّيت تروياً في العملية بأسرها وخطّطت لها تخطيطاً كاملاً ، سيغنّي المطرب البيت الأول لوحده، وعند البيت الثاني تخرج الآنسة نادية إلى خشبة المسرح تتبعها أربعة كلاب خشبية بعجلات، الأول قيصر وهو كلب صيد ايرلاندي، والثاني فيدو وهو كلب لولو أسود، والثالث جاك وهو كلب صيد بريطاني، أمّا الرابع – الكلب العيسر – فهو، بالطبع، كلب عيسر.  وعند البيت الثالث تظهر الآنسة نادية لوحدها، ومن الجناح الآخر للمسرح تأتيها الكلاب يجرّها خيط رفيع، ثم تلحق الآنسة نادية بالمطرب ليخرجا معاً وتنسحب الكلاب في الوقت نفسه من الجهة المواجهة التي ظهرت منها، ليلتقي الإنسان والحيوان في الوسط وهم في سبيلهم إلى الخروج، وهي حيلة درامية ذات نفع كبير، نعم، يليها تصفيق هائل من قبل الجمهور.  وعند البيت الرابع، تظهر الآنسة نادية بفروة أنيقة ومعها الكلاب وهي لابسة جاكتات شيك.  أمّا البيت الخامس، فلديّ فكرة رائعة، سيظهر كلّ كلب على خشبة المسرح يقوده أبله، فتظهر الآنسة نادية من الجناح المواجه ليتلقي بالكلاب في والوسط – وهي حيلة درامية ذات نفع كبير – ثم تستدير وتسحب الكلاب بالخيط الرفيع إياه لتخرج بها إلى الكواليس والكلّ يصدحون بهستيريا جنونية:

خَرَجَتْ نَادِيَةٌ تَتَنَزَّهُ بِقَيْصَرِ
وَفِيدُوٍّ وَجَاكٍّ وَالْكَلْبِ الْعَيْسَرِ

- تك تك تك! دقّات الطبل على الحروف الثلاثة الأخيرة.  إنني لجدّ متحمّس، لا أكاد أنام بالليل ولا يرتجف لي جفن.  سأخرج غداً قبل العاشرة وربع صباحاً، ولقد بعثت برقية لميرفت هانم كي نتغدّى أنا وهي.
وأنهى لوقاس هذيانه بزفرة شبقية خاطفة. 
وإذا كانت الأسرة تشارك لوقاس حماسته لاختراع الآنسة نادية تلك، فإنهم نجحوا نجاحاً باهراً في إخفاء هذه الحماسة.


القصة الكاملة بالانجليزية هنا.

12 يونيو 2012

تلعثماتٍ


تَلَعْثُمَاتٍ

تنتثر الأقوال والألفاظ في الرياح العاتية ناحية البرزخ، تزحف الأمواج – المثخنة بالطحالب والازدراء – نحو شواطئ الجزر الوسطية، تكثر الإرهاصات والإشارات المتداخلة الأولى في أختها، والثانية في خالتها، العيون شاخصة نحو الأفق فتتوالى القراءات والتفسيرات، غير أنها غير سامية نحو نقطة معيّنة فتتناقض الصور وتختلف الروايات، غلام أشيب يحمل رزمة ثقيلة من الصحف فوق كاهله، يتعرّج، ترتجّ مفاصله وتصطكّ، يكاد ينزلق وتبتلعه الفوضى.. حالة ترقّب تجثم على الصدور، تدفع المنجّمين وهواة الأفلاك إلى إخراج ضروب نادرة من التنبّؤات لا تشبه الأولى أختها، ولا الثانية خالتها، غريبة، برزت أصوات مندّدة، اكتسحت الغيوم سطوح القرى والنجوع، تمتصّ الأرواح اللزجة من داخل قواقعها وتبثّها إلى أعلى وإلى أسفل، لا اتّفاق بين أنهار الراح لا من مصدرها ولا من موردها، هكذا..

***

وسوسة: تساوره شكوك غائمة تغيم حول مستقبله في المؤسسة الآكاديمية، لكنه يرى أمامه وجوه مبتسمة، وأخرى عابسة

***

همس خفي: يصعب عليه أن يميّز بين: الطبيب النفساني.  والأخ.  والأب.  والجلاّد.  وكدية الزار.

***

صوت لا يدرك مصدره:  هو ليس ذكياً جدّاً، يرى نفسه فنّاناً،  يحبّ الكلمات ويستسيغها، أمّا أن يكون فيلسوفاً فهذا أمرٌ مثير للهلع

***

حشرجة:  لم ينشر شيئاً باللغة الانجليزية بعد، صحيح أنه لم يحاول ذلك،  وصحيح أن لديه بعض الأشياء قيد المراجعة، لكنّه يرى بفطنته وبصيرته أنه لا يرتقي إلى مستوى الرفقاء

***

هاتف يهتف في جوف الليل:  يشعر وكأن منفاخاً عظيماً ينفخ فيه، والحق أنه كان يثق في هذا المنفاخ، كان يثق فيه وبمن وراءه.  لكنه لا يدري من وراءه.

***

ردح : والجدّة، ماذا تقول الجدّة؟ بل هي تردح.

***

تَكْ قُبْ تك قب: تك قب تك قب ..

***

نأمة:  الغرب الأوسط هو دوّامة اللاثقافة، تبثّ ضحاياها إلى أسفل وإلى أعلى، تدفعهم إلى خارج الحدود

***

حفيف:  كان الأفضل لو ركّز في نصّ واحد، أو كاتب واحد، فهذا أريح للبال والنفس

***


وامُرْساه! ..