22 مايو 2009

جلود وخدش

جلود وخدش

المداخل الفضلى

هبْ أنها نزلت مقبلة مدبرة الى خشبة المسرح تحملها مرجيحة برفق وقدر لا بأس به من الخرافية المهضومة حتى لامست بنات قدميها الأرض - لم تكن حافية بل مرتدية جزمة جلدية سوداء - تَكْ قُبْ، تك قب، فانزلقت منتصبة ترفقها وثبة غزل تكاد لا تُلاحظ.
ولا ننسَ تلك الوردة اللي مركّباها في بقّها المضموم البضّ، جذعها مرفوعة على أضراسها إذ حاشا لله أن تخدش أشواكها شفتيها الغضّتين الممتلئتين، ثم ما إن هبطت من كرسي المرجيحة حتى خلعت الوردة وألقتها الى الجمهور فلوّحت لهم بالقبلات والغمزات، لكن باقتصاد لا يشوبه الدلال!

فقلتُ على سبيل التقديم: أيها الإخوة! البحر أمامكم والهدى خلفكم!

تناولت الوردة من يد من تلقّفها، فأمسكت بجذعها وجعلت أمضغها مضغاً ما بعده مضغ. سالت قطرات من الدم بغزارة ولم تتوقف حتى أغمى علي.

جاء في المحضر ما نصّه:

راح يمزمز في الوردة قام سخسخ على نفسه.

المراية

وقتها أدركت أن الوردة كانت ثقيلة بعض الشيء، لا تليق بالخرافية المهضومة ولا بمن يلبس جزمة شيك قد كدا، محسود عليها. غير أن هذا الإدراك المتأخر لم يسعفني ولم ينقذني من فترة عذاب لعلها طالت ولعلها قصرت، أجهضت أم حبلت، عرفتُ خلالها عملية زرع وإعادة تشكيل ما بين الحنكين، أمدّوني بعدها بمراية تلوّثها تلاطيخ متخثرة من الملح أو ما شابه،

جعلت أضحك.
جعلت أقهقه.

أبعدوها! صرخت، بصوت اختلطت فيه الأوامر بالنواهي. بعقيرة، اقترن فيها الجدّ بعكسه.

أحالوني الى جناح العناية الخاصة بسرعة فائقة داخت لها النفوس، أو هكذا زعموا. الحقيقة أنهم أودعوني الحجر الصحي. هذه الجروح، هذه الندوب المرعبة، لا بدّ سببها عدوى ذو بأس، أو جرثومة ذات شأن.

"حسناً فعلت". باغتني قوله، عملت شقلباظ كده لورا من فرط الصدمة، تعثرت ووقعت على قفايا. لم أكن أتوقع أن يشاركني هذه الزنزانة أحد. ولم أكن أتوقع، بطبيعة الحال، أن يكون هذا الأحد عفريت الماء، السمندل، الكائن الشاذ، الأخولوتل. جرى بينه وبيني هذا الحوار.

كونياك: ايه اللي جابك يا مسخ.

الأخولوتل: لا شيء، غير الظروف وجواباتها. إلا أني أعترف، تكريما لك، أني هذه المرّة ورايا شغل تاني غير ذلك.

ك: اللي هو ايه؟

الأخ: كلّفوني بتسليتك خلال إقامتك هنا، لغاية ماترجعلك الصحة فتكون مستعدّاً للخروج الى مراتع البشر ولا فيك عدوى ولا يحزنون.

ك: واللي كلّفوك ...

الأخ: اللي كلّفوني كلّفهم الشر، اللي هو برّا وبعيد. والأفضل لك أن تسكت وتسمع كلام.

ك: يا خويا شوية أدب ربّنا يخليك.

الأخ: يأدّبك شيطان. المهم، أنا منوط بمهمة تسليتك كما أني منوط بمهمة إمدادك بالحق والمعرفة والنور والغذاء. ومن أجل تحقيق مرادنا هذا، أريد منك أولا أن تبتعد عن العلب والقاروصات والباكتّات وكل ما يوضع على الرفوف قبل الاستهلاك. وعليك ايضا أن تتحاشى الرشاشات والبخاخات وكل ما آخاها من حلول تباع وتشرى.

ك: لكني، يا أخي المسخ، لقد امتنعت عن الحاجات دي من فترة مضت وانطوت. بل لم أكن أستسيغها إلا وأنا متوغّل في طيات البورجوازية المتوسطة بكل أفخاخها. هذا وبطّلت آكل المطاط والورق المقوى وما حالفهما من الأطعمة المسمومة.

الأخ [وهو يعقد حاجبيه بما يدلّ على التأفف ونفاد الصبر]: اعرف يا عكروت أني لا أكنّ لك سوى المودّة والنيات الحسنى. فماذا بك تكذب وتماطل في الأباطيل.

ك: جك القرف. بقولك بطلت يعني بطلت.

الأخ: والوردة؟ أليست هي من السلع المعبّأة؟

ك: فعلا لقد استثقلتُها، وهذا مسجّل، مدوّن. بس خلاص بلعت الموعظة بحذافيرها - التعويرات اهيه والندوب اهيه. أنا عشان كده ودّوني المصحّة دي.

الأخ: اهو انت كده هرشت كويس...

ك [مقاطعا]: بس لحظة يا أخولوتل بيه. إن شممت شيئا من كلامك، فإني شممت هاجس الأصالة بروائحها البالية النتنة.

الأخ: أوصّيك يا خوي أن تطّلع على الردح المتبادل بين إبليس واسمه ايه ده العزيزي، اذ يبان فيه بعض ما هو عبيط وبعض ما هو مفيد لمن ينوي - مثلك - إعادة ترتيب مطبخه ومغسلته.

ك: أفهم من هذا يا أخ أنه في التراشق ما بين الاثنين شيء من الجدلية التوليفية، بل لعلّ حوارنا هذا يتقاطع معه بشكل لولبي مزدوج على نمط الحمض النووي. فعندك مثلا تركيبة غسل الدماغ عند مختار العزيزي، فيقذفه بيسو بالشعار الدعائي أومو تغسل أكثر بياضا.

الأخ: والذي يؤدّي بنا بالتالي الى أن نسأل - هل يحنّ أحدهم الى عصر ذهبي مضى، كان يخلو تماما من الكيمائيات والسراطين؟

ك: أظنّ أنني أنا الذي كنت أتّهمك بالتشعلق بوساوس الأصالة.

الأخ: المهم، يا أخي، أنه يجب عليك أن تجترّ عواقب الغسل والتطهير، فما بك كنت تغسل هدومك في المية السخنة، هل من أجل إبادة الجراثيم الفتاكة أم من أجل الشعوذة وطرد العفاريت؟

ك: والمفارقة، يا أنت، هي الارتياح مع النفس وقد تراكمت عندها ما يوضع في النملية ويُرجع اليها عند الضيق والشعور بالفراغ. وأعني بذلك طبعا الكابسولات والأكل السريع.

الأخ: لكن ألا أذكرك يا مسخ بما يوحي به ذلك من ترفّع طبقة على طبقة أخرى، وتفضيل القشرة على القاع.

ك: واذا كان القاع يستهلك القشرة، والقشرة السابقة هي التي بإمكانها اختلاق الجذور، فما عسانا نفعل يا بتاع المعرفة والحق والنور والغذاء؟

الأخ: لعله يكفي، يا أخي، أن...

ك: لعله يكفي أن نعترف بتورّطنا في الموضوع أساسا وصعوبة الخروج منها، فنكتفي بفضح الروابط الكامنة والعلاقات الباطنة، كي نرقص يا أخ، كي نرقص ونقصف ونتقصع تقصعا ما بعده تقصّع!

الأخ: دانت هرشت كويس، ولعلي هرشت حبّتين كمان. عشان كده حادّيلك كادو يخلّيك تخفّ وتشيل الخدوش العميقة اللي معوّرة وشّك. سوف أخلي لك جلدي فيكون بإمكانك أن تكمل عملية الترقيع والتشكيل.

ك: جُعلتُ فداك يا أخي.