18 ديسمبر 2010

المحيط الفشري في شرح كلام عالبحري

المحيط الفشري في شرح كلام عالبحري

الحسّ التعليمي عندي قوي جدا، جاء بعض القرّاء وقد استبدّ بهم الحيرة والالتباس، فأخذوا يضربون أخماساً في أسداس، وسألوا عن وضعي بين الجنّة والناس.. والأمر طبيعي جداً، نظراً لكثرة الطلاسم التي أنطقها، ووفرة الأحجبة التي أكتبها، وطفرة المسوخ التي أطلقها.. أو لا أطلقها.. وهكذا.. (يعني إيه "المسوخ التي أطلقها"؟!) *

تروّيت في الأمر مليّة، قلبت الأقوال على أوجهها الشتى، حلّلت وفسّرت، تأمّلت وتفكّرت، ثم قلت في نفسي: فالأؤلّف قاموساً، يوضّح ما غمض، ويكشف ما خفي، ويصفّي ما تعكّر، الخ. وقد يشكّ البعض في الفائدة التعليمية المستخلصة من مثل هذا النصّ، أي القاموس، والذي لعب دوراً على مدى التاريخ في ترسيخ مفهوم اللغة الواحدة، التي تمتلكها أمّة واحدة، التي تحكمها طبقة واحدة، هي طبقة النحويين والجنرالات.

لكن ليس القاموس لوحده مسؤول عن هذا الظلم والإجرام، فقد يرقد صامتاً منسياً بين مجلّدات بعضها تنطق، وبعضها تصفّق، إلا أن كل كلمة مسجّلة فيه تحتاج الى رئة، وهذه الرئة تحتاج الى حنجرة، وهذه الحنجرة-الرئة تحتاج الى إنسان عاقل يقبلها – أي الكلمة – أو يرفضها، حسب تواجد العناصر المؤثّرة الأخرى (وهي غير جانبية) من متكلّمين ومقيّمين وصناديق سوداء، أو غير سوداء.. ثم ان بعض القواميس أصبح لها جمهورها، بل جماهيرها، يتسارعون في اقنتاء أظرف معجم وأحلى محيط وأجمد قاموس ليزيّنوا به رفوفهم العراة! فيغدو بذلك وسيلة من وسائل الانتماء الاجتماعي، يصبّ في صيغة من الصيغ المتداولة: أمة أو طبقة أو وظيفة أو جملة أحاسيس خيالية، الخ. فالقاموس اذا أريدَ له ان يسري مفعوله – أن يخبّ ويتموّج ويزخر ويتعبّب – اذا أريدَ له هذا، باختصار، فيجب أن يكون له حلفاء: من الأنهار والسواحل، من الأفراد والقوافل، من الجنة والناس.


لكن كفانا بؤساً ، فأقدّم لكم قاموسي الكبير، المحيط الوفير، دون المزيد من المقدّمات:


هرش بفتح الهاء وسكون الراء هو الحكّ والحسّ واللمس واللعق، وسببه القمل والنمل والبرغوث والجراثيم، لكن حصيلة كل ذلك هو الفهم، أي الإدراك، فيقوللك مثلا: انت هارش؟ آه، أنا هارش. والمقصود نعم أنا أفهم قولك وأتبيّن غرضك ونحو ذلك.

انحطاط على وزن انحراف أو انفشاخ هو من النشاطات المستحبّة والأحوال المستغثّة في الحياة البوهيمية، وله أشكال عدّة منها: مؤانسة العدار والقطرب والجندب واللون البنفسجي، وكذلك التورّط في بعض أعمال الهنك والرنك، ثم تناول كوكتيل المنفلوطي.

ترقيع على وزن تعوير أو زمهرير وهو كل ما يُلحق بالجسد أو يتحالف معه بطريقة أو بأخرى، ومنه السجع فقد قال الشدياق إنه "للمؤلّف كالرجل الخشبية للماشي"

حسحس هو الرئيس محمد حسني مبارك، وبس

زقططة هي نوع من أنواع العطر الغالي ثقيل الرائحة نفّاذ البائحة وهو يصلح لدهن الحيطان أو أن تلطّخ به الرصيف عند منتصف الليل، فقط منتصف الليل أو عندما تسمع ثغاء النعجة أو رغاء البجعة فتجنّبك بذلك شرّ المتربّصين آمين..

كونياك على وزن تنباك ومتناك وماذا دهاك وهو كصوت العندليب أو عصارة الجعضيض ومنه نوافع كثيرة


وهذا قليل من كثير فالقاموس الشامل اتجوز الجاموسة الحامل وجابوا كلام كتير ملوش لزمة..


---

* لعلّني أذكر بمناسبة المسوخ أني أقرأ الآن مقدّمة ثروت عكاشة لترجمة "مسخ الكائنات"، الدكتور ثروت كما فهمت من تجوّلي في مكتبة كوكب عنبر له العديد من الترجمات التي يدّعي تأليفها. ثم لا بدّ أن أذكر هنا - بمناسبة المسوخ - بعض مما أتى في كتاب رامة والتنين فيقول " كانت قد جاءت قبل موعدها. لم يكن يرى شيئاً غيرها - وكان لها جمالها الذي يؤلم، هل الحب هو هذا الألم؟ في وسط ميدان التحرير الغاصّ بالوحوش والمسوخ " (8-9) ويقصد بذلك طبعاً الإساءة الى موظّفي المجمّع وطلاب الجامعة الأمريكية

04 ديسمبر 2010

وتسألون عن الصندوق الأسود


وتسألون عن الصندوق الأسود

هبّت الرياح وارتطمت أمواج الملح بشواطئ المعمورة، تزبّدت سوائلها وتفجّرت، تفتّحت على جثث الطحلب النافقة، الممزوجة بنسغ القزحية وفقاقيع البرزخ.. والشيح والقيصوم أيضاً، فقط جرعات متكوّرة منها، حفنات مدوّرة صغيرة من الأملاح الحامضة والخضروات النقاضة.. كل هذه، اصطفعت بخطوط الرمال الممتدّة حتى الأفق: هكذا هي الأحوال في جزر المحيط الشمالي، بلاد الثلج والجليد والأجهزة العلمية المتطورة، الصادرة عنها أشعّة غريبة يخشى منها الكافر قبل المؤمن، هكذا..


***

المدوّن صاحب هذه المدوّنة: أنا لا أحبّ هذا البرد، البحر عندي هو شيء رحيب، مالح نعم لكن فيه دفء، وإن اختلط في هذا الدفء الكثيرُ من الخطر والانزلاق نحو الأعماق..


***


شتّان ما بين جزر المحيط الشمالي وبين الجزيرة المغناطيسية، الواقعة في بحر المرجان قبالة الساحل الشمالي الشرقي من أستراليا، الجو فيها رطب لطيف، قلّما يخدش المشاعر، يرتاح فيها الصغار مثل الكبار ومنها يرزقون، هذه الجزيرة المغناطيسية أُطلق عليها هذا الاسم للطاقة السحرية المتذبذبة التي جذبت اليها القبطان برعي القتّات، الرحّالة والمستكشف اليماني الشهير الذي عثر عليها أثناء طوافه حول العالم سنة ألف وستة مئة وستة وستين، نفس السنة التي أُحترقت فيها مدينة لندن الكبرى، بما فيها من مسارح ومتاحف وسجون وعمارات..

سجّل القبطان في مذكّراته جملة من الملاحظات الصغيرة، تصبّ في تلميحات جانبية لكنها كبيرة، مفادها أن هذه الجزيرة تحيط بها هالة مبتهجة من النور الخالص، تحبس الأنفاس، هذا بالإضافة الى تلك النجمة في الأعالي، المصادفة في مدارها في ذلك اليوم ببرج العذراء، أو برج العقرب لا يعرف، كلها تعد أو تتوعّد بغد مشرق، ثم ولادة طفل رضيع يستبشر بمزيج من الخير والشر.. ربما..


***


الدكتور فاوستوس. السيّد لي تيبينغ. السيّد دافيد كوبرفيلد. جاندولف الأبيض. جاندولف الرمادي. ماجنيتو. لا يتّفق اثنان حول اسمه الحقيقي. لا يعرف أحد أين يقيم حاليا: هل هي أيسلندا؟ انجلترا؟ احدى جزر المحيط الشمالي لا شك.. لا أحد يعرف أين مسقط رأسه، المؤكد أنه مرّ على الجزيرة المغناطيسية أيام طفولته، لذا آخر ألقابه المذكورة، لكن.. حتى هذا الخبر يكذّبه البعض، هو لقيط تم العثور عليه في مخيّمات السرك المتحرّكة على الدوام، من يدري؟.. من يشعر؟ لكن ما من أحد يجهل ما بحوزته الآن: ذاك الصندوق الأسود، الذي وقوده الحجارة والناس.. اذن فشأنه خطير لا ريب!


***


" اشفيني أيتها الشقراء، أمدّيني بالحقن والضمادة والإسفنج والمسكّنات."


***


فقرة من رسالة بعثها الى وزارة الخارجية الأمريكية:

عزيزي سفير الامبراطورية،

تحيات طيبة وبعد. كما تعلمون فقد اكتشفنا مكان الصندوق الأسود، وهو كل ما نحتاج اليه كي نشغل جهاز الميتيوفيريوم العظيم، عزّ شأنه وجلّ. لا نطلب فدية لكن مطالباتنا معروفة، واضحة لا يشك فيها كائن حيّ، حيث أننا أجرينا مكالمة هاتفية بهذا الصدد يوم الجمعة الماضي. الرجاء الاتصال بنا بأسرع وقت ممكن فتحذروا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.

فقرة من رسالة بعثها اليه السفير:

عزيزي ماجنيتو،

نحن حكومة الولايات المتّحدة الأمريكية لا نتفاوض مع الإرهابيين.

فقرة من ردّه:

عزيزي السفير،

الظاهر أنك فاكرها مزحة. فلتذوقوا طعم الحنظل ولتموتوا غيظاً.


***


" اشفيني أيتها الشقراء، أمدّيني بالحقن والضمادة والإسفنج والمسكّنات، والشطّافة.. "


***


مطلوب: مشرف/ة على مرحاض الملك

تصنيف الإعلان: مطلوب للعمل

رغم الإعلان: 38287 ب، انجلترا

تاريخ الإعلان: الثاني من سبتمبر، 1566 م

تفاصيل الوظيفة: من أقرب المقرّبين الى جلالة الملك وجسده المبارك، كاتم سرّه وحافظ لسانه ومخلّفاته، الرجاء التعامل برفق مع سويداءه كما صفراءه، في السرّاء والضرّاء، في الإسهال والإمساك وما بينهما، أللهم جعلتَ فداءه


***


جهاز الميتيوفيريوم ووقوده الصندوق الأسود. هذا الجهاز يُشهد له بالوظائف التالية: تشكيل الغيوم الممطرة، وإثارة الزوابع الحمراء، وإطلاق ما اُختزن في البحر من رعد محتوم: أي باختصار، التحكّم في الأحوال الجوية للكوكب.

قال بعضهم إن هذا الجهاز ما هو إلا تنويع على فكرة قديمة جرّها علينا من قبل سلالة طويلة من المجانين والفاسقين والمتمرّدين من القوم. وقالوا إن ماجنيتو معتوه، ومجرم، لن ينجح في نهاية المطاف. شكّكوا في نواياه، ونقّبوا في دفاتره وشهاداته، فاستهزأوا واستخفّوا. إلا أنهم لم يسمعوا بعد عن تلك الآنسة الودودة، القريبة المقرّبة، جالينا ..


***


الأحوال في المحيط الشمالي مضطربة، تكثر الانتحارات وتنتشر الإرهاصات، تظلّ البواخر الغريبة تلتطم بسواحلها العجفاء، كله بصراحة خرا، لا أكثر ولا أقلّ، لكنني مع ذلك مبسوط، بل مبتهج، وأتطلّع الى المزيد في الأيام القادمة..

01 نوفمبر 2010

من جيب بنطالي

من جيب بنطالي

" أيها الإله المنتصر الخصيب، يا من فُتحت له الأرتجة المستعصية، وكُتبت له الأروقة المستعدية، يا بعل النيزك يا شمضوت يا أخا زيجوريم، أحّه بجد أحّه، يا ربّ الطلاسم الشنعاء، والبلاسم العجفاء، لك الزواحف اللزجة والضفادع النزقة، لك ما في الزوايا والكهوف والهضاب والمكسّرات، المجد لعظمك المتعالي عن الألسنة والذوالق واللغات، الحمد لمقامك المرشوش جيّداً بماء الورد في موسميْ الحرث والحصاد وما بينهما، جيم كاف عين ظاء، شلضم فلضم، يا رائج الصدفة يا مداوم الموبقات، اغسلْ روحك كويس ولنلتفي في مكان معطّر ونظيف.

باسمك نكرّس هذا الحجاب "

* * *

وجدت هذه الورقة المكرمشة في جيب بنطالي وأنا أقوم بخلعه استعداداً لطقوس الغسيل. أمامي كومة مبعثرة من الأسمال والهلاهيل، والهرابيد أيضاً، وأنا أقف مشدوهاً، محملقاً بحيرة وارتباك في هذه الورقة المكرمشة، التي دسّها أحدهم في جيب بنطالي المخلوع.

من أين جاءت؟ ومن كتبها ولماذا؟

هناك عدّة جهات أشكّ فيهم في الحال: طائفة السينتولوجيا، وممكن أيضاً جماعة البقرة المبتسمة، أو حتى داوود ذي القميص الفاقع الألوان. ولعلّ كلّ ما في الأمر أنه بعض المشعوذين العابرين، مرّوا ودسّوا ثم انسحبوا الى غير رجعة، ربما.

هذه المغسلة تقع عند تقاطع الطرق، تظلّ مفتوحة من الساعة العاشرة صباحاً حتى الساعة الحادية عشر مساءاً، أتردّد عليها من حين لآخر بهدف إزالة التراب والجراثيم والميكروبات وبقعات القهوة والشاي عن ملابسي، التي تتكوّن من سراويل وقمصان وكوفيات وبنطلونات طبعاً، ثم أحزمة وقلنسوّات وغوايش وبراطيش بكاروهات، وما أدراك ما براطيش بكاروهات، وسوتيان وشمسيّة وسترة وصولجان، كلّ هذه الأغراض، أرميها في مخلاة واسعة من الخيش، أربطها جيّداً بخيط من الحرير الأخضر وأحملها الى المغسلة الواقعة عند تقاطع الطرق، اذ ليس ثمّة غسّالة في الشقّة.

ألقيت الورقة المشبوهة جانباً، وعدت الى الخرق البالية المتكوّمة أمامي، رميتها كلّها في جوف المكنة الفاغرة فاهُ، فجلست على كرسي أبحلق في الدوران المتزبّد حتى مللت ذلك فأخرجت رواية وانغمست في المطالعة.

- انت بتقرا عربي؟ قال. أنا كمان، قال. شوف كرّاستي، مكتوب عليها اسمي بالعربي.

فأخرج الكرّاسة، ذُهلت، مكتوب على غلافها ببنط أسود كبير: اسرائيل.

- اسمك اسرائيل؟ سألته. وهكذا تعرّفت على اسرائيل، مكسيكي يهودي يتكلّم اللغة العربية يعمل في المغسلة.

اتّصلت بالأخت نونو في مصر وقلت لها: سلّميلي على حمدي، وقولي له شكراً.

قالت: لماذا؟

قلت: كنت أقرأ روايته في المغسلة – سحر أسود – حين تعرّفت على إنسان فريد يتكلّم اللغة العربية. لأن كلّ شيء ممكن، وكلّ شيء غير ممكن أيضاً، في المغسلة.

وهذا مثلٌ اقتنعت به واعتنقته، مثلٌ متجسّدٌ في كومةِ الإمكانياتِ الفقاعيةِ اللانهائيةِ، لا تفقعُ ولا تذوبُ إنما تتزبّدُ وتترغّى ثم تتكثّف بحيث تزداد مرونةً وتحرّكاً، ليس بفضل الصابون-المسحوق لأن هذا ممنوع، بل بفضل الماء المتزوبع الذي تخلطه بالورق والسبارس والطمي والطمث، والخوص والريش والتنباك والألق، هذه كومة ملتقّحة من الأشياء المتشكّلة ترميها في المكنة وتضغط على الزرار المناسب لرغبتك في سخونة الماء أو عدم سخونته، وفترة الدوران التي قد تتراوح بين الساعة والنصف ساعة، ونوع الملابس، وجودة القماش، ثم تركب العجلة وتمشي، لعلّك ترجع الى البيت لكن هذا مملّ، أمامك الآن آفاق واسعة وآمال شاسعة، فالأجدر بك أن تجرّب الصدفة، وتستسيغ المفاجآت..


29 أكتوبر 2010

هندسة الحال

هندسة الحال

كأنما يهدّدني الآن: أتظنّ أنك ستتخلّص من هذه القراءات، دون أن يزعجك شيء؟

فكان أن قاطعت تفكيري خبطة على الباب، فتحته، وولج الى شقتي.

ثم دخلنا المطبخ وجعلنا نتضاجع مضاجعة الحيوانات السعرانة. وأقول لك، بل أشهد لك، أن هذه المضاجعة قد تمت على أكمل وجه، حيث أننا أفرزنا كافة الوسائل المطلوبة منا، وأفرغنا في بعضنا البعض الشيء الكثير من المنى، والبول، والكلام العسل. آمين.

رفعني من تحت مؤخرتي فوضعني فوق الحوض وقال: حان وقت المص والماء.

وما هو وقت المص والماء، لا أعرف. لكني اخترعته في الحين. قرف وفساد وحق ونور: كله محصل بعضه.

وضع على رسغه حزازة خضراء، قال: هذا بسبب ثورتنا الخضراء.

ولجنا كلّنا الى البار-المقهى، الذي قد تحوّل الى مسرح، وجلست الى جانب صديقي العزيز باء. ثم فتح بلغمه وقال: هذا ليس ببلغم، لأن البلغم لا ينفتح، إنما يُطرد، وهو الأصح.

أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم.

يتذكر سبارتك وهو يقول ذلك، فتعلق بها - أي بالعبارة - التلاميذ التانيين.هذا شيء للذكرى لا، بل للخلود. فتح الحقيبة واذ فيها شيء من فرق البن. أي حبات البن متناثرة هنا وهناك، كيفما اتفق.

25 أكتوبر 2010

من ألماس أبي نواس الى أزهار أبي نينار

من ألماس أبي نواس الى أزهار أبي نينار

هذا الإغراءُ، هذا الشهدُ الخاص، هذا الداءُ والدواء.. كُنْتُ قَدْ وَدَّعْتُ الحُبُولَ وأَخَواتِها مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيد، فأودعتُها في مخازنَ خشبيّةٍ محكمةِ الإغلاق، تنأى عن شقّتي بأميال وأميال، حتى نُسي أمرُها.. هذه المدوّنة لا تتخصّص في الحبول، لكن هنا بعض الحبول لا ريب.

اعتليتُ هذه الصخرةَ المَلْساء، وفَلَقْتُها نِصْفَيْنِ فانْبثق منها سائلٌ ذهبيُّ الرائحة، قرطبيّ اللون، تبقّعَ بِهِ قميصي وتبلّل، قيل إِنَّهُ دم الزنزلخت، أو عصارة القرنين المطحونين، ثم وقب بعض الغاسقين، تلألأوا رافعين أجنحتهم المبرقشة الشمطاء، طاروا وحلّقوا وتدحرجوا، وسرعان ما خمد ضوؤهم وانطفأ..

من أسعد طوايا عقد حبولنا بحبول أبي نينار

قال في أمر القرآن: ليس للنساء مكانٌ في الجنّة، وَحْدَهُنَّ الحوريّات هنّ المذكورات في الكتاب.

فأضفتُ ببلاهةٍ: والولدان المخلّدون أيضاً!

فصمت.

قال في أمر نهاية السهرة: يلا نمشي.

فقلت: سمّعنا قصيدة قبل ما تمشوا. وقلت: دَعْ عَنْكَ لَوْمي فَإِنَّ اللَوْمَ إِغْراءُ

قال: وَداوِني بالَّتي كانَتْ هِيَ الدّاءُ..

قال في أمر حيدر: أنت جاهل يا حيدر.

قال في أهل باريس: إنّهم أجهل بكثير من أهل بيروت.

قال في أمر الأسماء: بلبل؟ بنبل؟ آه.. بنبن.

قال في أمر أنيتا: بالتقدير والإعجاب.

***

الدفء والسكّر والحضن والاقتراب، ولا أدري، كيف ستكون الأمور بعد ثلاثين سنة، لكني واثق أني في هذا الشهد الخاص قد تذوّقت تجربة تولّد التجارب.. يا سيّداتي وسادتي، إنّ لي موعداً مع الكاهنات، إن لي قلباً ينبض في بعض الأحيان..

وهنا قلنسوّتي : لكم حفنة من العشق وبعض الحبول


17 أكتوبر 2010

أنا وثباتيرو

أنا وثباتيرو

لقد كثرت الإشاعات بحيث لم أعد أستحمل..

تناهي الى مسامعي بعض مما يتمخّض عن مصانع الثرثرة وأوكار الضغائن والحزازات.. ومنازل الأقزام والهوامّ الصغيرة، الضئيلة الحجم، بحيث لا تراها.. جُلت بأزقّة المدينة وشوارعها، فتردّدت على تلك الزوايا البعيدة عن الأنظار، والمراكز النائية عن الأبصار، لم أبصر، ولم أحسّ، لكن.. ترامت الى آذاني زوبعة من الكلام البذيء، والألفاظ الشنعاء، والمضاربات الغالية في سوق اللغات والإشارات.. كلّها، أو قل معظمها، تتركّز حول سؤال دائم وملح:

ما علاقتي بخوسيه لويس رودريجيث ثباتيرو؟

وقد توسّعت دائرة التخمينات والتساؤلات لتشمل أسئلة أكبر من النوع: وما علاقتك بالاشتراكية؟ وماذا تقصد بقولك المراكز النائية؟ وما صوت الفراشة في موسم الجماع؟ .. لن نجيب على مثل هذه الأسئلة اليوم، للأسف الشديد.

قد يظنّه البعض مزحة مني، هذه العلاقة الوطيدة التي كثيراً ما ألمح اليها عن طريق الغمز واللمز، لكن دون أن أبوح بكامل تفاصيلها المخبوءة، وأسرارها الكامنة التي لا حصر لها ولا عدد.. لكني اليوم ولحسن الحظ قد راق بالي، ومال عطفي، فدفعتُ الكفّة نحو الصراحة بمقدار ملحوظ، محسوس به. ولذا فقد رسى يقيني على ضرورة الكشف، كما انعقد عزمي على أهمية الفضح والفشخ، وإن كان فضحاً صغيراً، وفشخاً ضيّقاً قصيراً، هو عبارة عن شقّ رفيع في الظلمة، أو شرخ رقيق في العتمة، لا يسمح إلا ببصيص خافت من الحقّ، ينير عقولنا الدعجاء..

فأقول إن السبب وراء ذلك ليرجع بلا شكّ الى الفرحة العارمة التي اجتاحتنا عام ألفين وأربعة الميلادي، اذ شاهدنا السيّد ثباتيرو وهو يكيل للسيّد بوش عدّة علقات سخنة، هذا في الوقت الذي كنّا استسلمنا فيه، وساورنا نحن التقدّميين الكثير من اليأس والقنوط والانهزام، لكن ها هو السنيور ثباتيرو يبعث في قلوبنا البهجة، فيسحب جنوده من العراق، ثم يبيح الزواج بين أبناء الجنس الواحد، ثم يعيّن إمرأة حامل وزيرةً للدفاع، ثم وثم وثم... ولعلّ أروع ما حقّقه في تلك الفترة: تصرّفه بهدوء، وتحلّيه بالذوق والتلقائية، وفوق هذه كلّه: ارتداؤه أشيك الملابس وأظرفها، بحيث قال بعضهم:

- إنها وزارة شانيل وبرادا.

وقالوا أيضاً: ها هو قد أعاد اختراع الاشتراكية، والكفاح الطيّب، للقرن الحادي والعشرين.

ومن آي ذلك ما انتشر آنذاك من دالّات عائمة، ورموز متدحرجة، تطايرت ثم احتكّت ببعضها البعض على سطوح العرض العامّة، المنفتحة على الملأ:

المربّعان الحمراوان، نُقشا بدرجة عالية من الدقّة والتصميم، يبثّان حالة جديدة من الأمل الممزوج بالانضباط، والعمل المخلوط ببوادر التهلّل والتقدّم والاندفاع.. زهرة القرنفل، في قبضة الثائر المنتمي، المنضمّ.

اللهمّ فاشهدوا. لكن.. لسنا هنا بصدد نقد لاذع - أو غير لاذع - لما يسمّى بالدعاية السياسية المشبوهة، كما أننا لسنا بغرض المدح ونحوه، فهذه مهمّة نتركها للمتحذلقين، والملتزمين، ومعودمي الدم من العالَمين.. اللهمّ فاشهدوا!

ذلك أن الأرض ليست متساوية الأطراف، ومثلها السماء يعتكرها الكثير من اللخبطة والشوشرة والضجّة والضوضاء.. والتوتّر.. ونتيجة لذلك، فما ان تدخل صورة من الصور الى هذا الجو حتى تعدل عن مسيرها المقصود، وتنحرف عن هدفها المعووج، فتلتطم بما سبقها من المنتوجات، وتختبط بما لحقها من الشواهد والمسبوكات.. ليس معنى هذا أن الصورة تفشل، بل هي تتحوّل، ويصار تلقّيها الى خلاف ما رُمي..

فقلت في نفسي: هل أني أحبّ الرئيس، أم أني أحبّ الطيران السويسري؟ والحق أنني لم أركب قط الطيران السويسري، سواء قبل انتخاب ثباتيرو أو بعده، لكني وبمحض الصدفة حدث أن شاهدت برنامجاً وثائقياً عن الفنّان الكندي المبدع تايلر بروليه، هذا المغامر الصعلوك الذي تكبّد شظية حادّة في جانب من مصرانه إثر انفجار سيّارته في أفغانستان. قُتل السائق على ما أذكر، لكن السيّد بروليه نفد بجلده فنجا بحياته ليتولّى بعد ذلك عدّة مشاريع فنية كبيرة، منها إعادة تصميم شركة سويسرا للطيران، قال:

- هذه الطائرة الجديدة، ستخلو تماماً من علامات الزينة وآثار الريشة، ليبرز بذلك هيكل المكوك بكامل تفاصيله الميكانيكية، زجاج ومعدن وحبول ومسامير، فالزبون يرتاح الى هذه الصفة الميكانيكية العارية، البحتة..

فجاء هذان المربّعان الحمراوان الأثر الوحيد لتدخّل الفنّان، وكأنهما طابع بريدي جاء ليختم المظروف الجوي. والحق أن السيّد بروليه رجل ظريف، لطيف المعشر، أتمنّى أن أقابله في يوم من الأيام اذا ما سمحت الظروف.

ولا يخفى عن القرّاء أن الرفيق ثباتيرو ليس الوحيد الذي اُستقرئ شعاره على هذا النحو، فالسيّد باراك حسين أوباما - وهو بمثابة ثباتيرو الأمريكاني - تعرّض أيضاً لمثل هذا الاستقراء. (طبعاً السيد أوباما لم يسحب جنوده من العراق، ولم يحلل الزواج بين أبناء الجنس الواحد، ولم يعيّن إمرأة حامل وزيرةً للدفاع: لكنه أقنعنا بأنه فعل كل هذه الأشياء وأكثر، لذا وصفناه بثباتيرو الأمريكاني). وهذه معلومة قديمة جدا في الحقيقة، أيْ أن شعار أوباما يشبه شعار بيبسي:

فيقال اذن أن أوباما مثل بيبسي، لأنه رأسمالي استهلاكي نعم، إلا أنه بخلاف الكوكاكولا لم يقتل بعد عدداً كبيراً من العمال والفلاحين في جواتيملا. معلومة قديمة بسيطة وفهمناها. الحقيقة أن مثل هذه الاستقراءات لها تاريخ طويل في المجتمع الأمريكي، حيث درجت بعض المجموعات الدينية المتطرّفة على تفسير شعارات الشركات الكبرى على أنها رموز للشيطان، وقيل: لأن هذه المجموعات لا سلطة لها، فتروّج للإشاعات الشيطانية كي يكتسبوا بعض السلطة التحليلية، الخ.

من اسبانيا وحزب بسوي، مروراً بأمريكا وبيبسي، الى مصر والأخ محمد البرادعي، الذي لم ينجُ هو الآخر من سوق الصور والأصوات، حيث يمكن لكلّ شيء أن يحدث، وأن لا يحدث أيضاً..

هذا الكليب، ثم هذا الكليب من 1:40

تتلاقى الأشياء، ثم تتباعد، وقد تتلاقى مرّة أخرى، أو لا تتلاقى، ولا يرى الغيب إلا الله آمين!


18 سبتمبر 2010

عدلي مات .. يعيش عدلي


عدلي مات .. يعيش عدلي


لم تسنح لي فرصة لقاء الفنان الكبير عدلي رزق الله، كما أني أشك في أنه سنحت له هو فرصة لقائي أنا – سواء من خلال هذه المدوّنة المتواضعة أو غيرها من ساحات اللقاء الإنساني الملفوفة بالغموض والهرطقة والانحراف، إلا أنه – أي الأستاذ عدلي – من تلك الأخلاط المتماوجة بداخلي، المؤثّرة بطريقة أو بأخرى في مسيرتي الدنيوية وغير الدنيوية على مرّ السنين، فبينها الصفراء والسوداء والحمراء ونحوها، أما الأستاذ عدلي فمن الأخلاط الزرقاء لا ريب .. عشت يا عدلي، وعاش الفنّ.


لا يزال عندي الكثير مما أودّ قوله عن هذا المخلوق الإسكندراني الفريد، والذي شاءت الظروف أن تحطّني محطّة الشاهد المتأمل أمام بعض من لوحاته، فساهمت في تشكّلي الذاتي المتحوّل المتخمول على الدوام، نظراً لبعض المواقف التي ركّبتني فيها، والإطارات التي أطّرتني بداخلها، إضافة الى الألوان المائية التي مرمغتني أنا وجسدي في انصبابها وانبثاقها..

لعلّنا لا نخطئ اذن في تأمّل بعض اللوحات ذات الطابع السحاقي:



لا غريب طبعاً في رسم لوحات فواحشية من هذا النوع، فالمعروف أن مضاجعة النساء لبعضهنّ البعض لهي جزء لا يتجزّأ من الفانتازيا الذكورية العالمية، هذا ما تعلّمناه من الشيخ النفزاوي في كتابه الروض العاطر في نزهة الخاطر اذ قال:


فبينما هو كذلك إذ دَخَلْنَ وأَغلقن الباب وهنّ مُمْتَلِئَاتٌ خمراً، ثم نزعن ما كان عليهنّ من الثياب وجعلن ينكحن بعضهنّ بعضاً، فقال المالك: صدق عمر في قوله: دار الخنا معدن الزنا

(ص 54)


ثم ذكر في مكان آخر رجلاً يحدّث رجلاً آخر عن إمرأة ذات عدد من الصفات المحمودة في جنسها:


قال: يا أخي لا شكّ أن هذا قصر الخلاعة عندهنّ، يدخلن له من الليل الى الليل. وهو مراح خلوة وأكل وشرب وخلاعة. فإن

حدّثتك نفسك أنك تصل اليها من غير هذا المكان فأنت لا تقدر على ذلك. وإن أرسلت لها لا تقدر على شيء.

قال: ولم؟

قال: لأنها مولّعة بحب البنات، فلذلك لم تلتفت الى ذكر ولا لصحبته.

(ص 180)


ولِمَ لا، فلا شك أن الأستاذ عدلي رزق الله كان رجلاً مهتاجاً – أي مُثاراً جنسياً – ومن حقّه أن يمارس هذا الهيجان مهما كلّفه من سوائل مائية وغير مائية..


ونعود بالذاكرة الى زيارة جمعت بيني وبين احدى لوحات عدلي، عنوانها إمرأة عارية أو شيء من هذا القبيل، أشبه ما تكون الى تلك الرموز المربّعة المدوّرة المعروفة عند المايا، تحتوي على سيقان وأبدان وكوارع ملتوية في بعضها البعض.. هذه

اللوحة شاهدتها في متحف الفن المصري الحديث، كنت حضرتُ برفقة فاء الذي دعاه عشيقه السفير خاء لمشاهدة فلم مكسيكي مستقل في دار الأوبرا. خرجنا من المتحف وجلسنا برهة وجيزة في تلك الكافتيريا هناك حيث طلبتُ أم علي اذ كنت أتكبّد آلام الجوع الشديد، الداعية الى جرعة أو جرعتين من اليمك. ما إن جلست الى جانب فاء وأم علي حتى وصل خاء بصحبة إمرأة إيطالية متأنّقة فسلّما علينا، مما جعلني في حيرة من أمري، فوضعني بين نارين، أو بين المطرقة والسندان كما يقال: فهل ألتهم الأم علي كي أسترجع ما ضاع من تركيزي وصفاء بالي، وأتحوّل بذلك الى ولد جائع نهم في نظرهما .. أم أترك الأم علي، وأضيع التركيز وصفاء البال، لكن أحافظ على شيء من الأدب والذوق ولو الى حين؟


اعتذرت لهم وأنا أغمس الملعقة في الأم علي ثم في فمي، تركتُ الأدب جانباً وانخرطت في شغل البلع والبلبع والهضم والاستيعاب.


دخلنا السينما بعد ذلك بعدّة دقائق، وسرعان ما فهمت اللعبة، فهذه الإمرأة الإيطالية عليّ أن أمثّل دور ابنها، وعليها هي ان تمثّل دور الأمّ.. أما السفير خاء فعليه دور الأب، بينما فاء وهو الأسمراني الوحيد في الحكاية يجب أن يمثّل دور الصديق المصري الودود، المرافق للإبن، اللي هو أنا. هكذا نتحوّل الى أسرة متكاملة، غير لافتة للنظر.


دخل العشيقان الى الحمّام فور انتهاء الفيلم، فوقفت أنا والإمرأة الإيطالية المتأنزحة نحملق في بعضنا الآخر. قالت بلكنة بريطانية لا تشوبها شائبة:


- حلو الفلم، إخراج مستقلّ وممثلين شطار، مش زي إفلام هوليوود.. [ثم كالمستركة] .. أنا آسفة، انت أمريكاني صحيح..


لم أفهم الشتيمة، هذا إن كانت شتيمة أصلاً، لعلّها تنتقم من انغماسي في الأم علي، أو أنّها فطنت الى ما لم يخطر على أحد ببال، فعرفتْ بشيء من الحدس أنني كنت قبل ذلك بعدة ساعات أبحلق مشدوهاً في دوّامة متوفّزة من الألوان المائية، المنسالة برفق وإبداع من ريشة الفنّان العظيم، المفقود، عدلي رزق الله..