31 أكتوبر 2009

عودة على ذي بدء

عودة على ذي بدء

قد يتهيّأ للزائر أن الحرّ الفقير مولع، متيّم، بكتاب من الكتب بعنوان "رامة والتنين " للمؤلّف الكبير إدوار الخرّاط. ذلك لأنه قد يلمح الى بعض ما أشرت اليه في وقت سابق بمناسبة صدور قراري التنظيمي الهامّ، والذي مفاده كان الإعلان عن إلصاق صورة التنّين على بنديرة هذه المدوّنة المتواضعة.

وصورة الغلاف، بالكامل، كما يلي:

ولن يخطئ الزائر في ظنّه هذا، الا أنه ظنٌّ يفتقر الى شيء من المعرفة والحقّ. فلا شك في أن هناك ما يشدّني الى هذا الكتاب – كأنما طاقة خرافية ملؤها الرعد والبرق واليود.

لكن ما خفي كان أعظم.

اذ ليس ما يربطني بهذه الرواية علاقة سطحية من النوع "أفضل كتاب قرأته في حياتي" أو ما شابه، إنما هناك ما هو أعمق من ذلك، وأكثر سطحية في آن. فالأطرف، والأنكر في الأمر كله، أنني لم أقرأ هذا الكتاب - ولا في يوم من الأيام ولا في وهم من الأوهام.

لذلك قد يبدو غريباً، وربما مزعجاً، أن هذا الكتاب إنما يلعب دوراً كبيراً في صيرورة الكون العظمى، وديمومة الأحداث الحسنى. ولهذا القول تفصيل.

أذكر أولا أنني في يوم من الأيام قصدت صاحبة الجلالة، خادمة اليمنين السعيدين، صديقة ما صغر ولطف من الحيوانات البرية والمخلوقات البحرية، ملكة سبأ المعروفة ببلقيس بنت فوزية بنت أم هاشم آل الثاني المكتوم. وذلك بمناسبة أول إبحاري في الروايات العربية المعاصرة. فلقد جئت، باختصار، من أجل طلب رأيها في الأمر، عسى أن أهتدي الى شيء من الأدب المفيد.

قالت صاحبة الجلالة: أوصّيك بروايات ثلاث عليك مطالعتها في بحر الصيف المقبل..

أما الرواية الأولى التي وصّتني بها صاحبة الجلالة، والتي تعبّر بلا شك عن ميلها العظيم الى الذوق الكلاسيكي بشكل عام، والطعم المحافظ التقليدي منه بشكل خاص، فكانت " مرايا " للمعلّم الأوّل نجيب محفوظ.

أما الثانية، فكانت "موسم الهجرة الى الشمال" للكاتب البارز الطيب صالح.

قالت صاحبة الجلالة: ستعجبك هاتان الروايتان، فإنها تناسب مستواك اللغوي قبل كل شيء. أما الرواية الثالثة...

وهنا توقفت عن الكلام فجأة، ثم استطردت قائلة:

لا بلاش..

قلت: قولي يا ستي ربنا يخليك.

قالت: ممممم.. طيب. اذن، هناك روائي مصري من الطراز الأول، يسمّيه البعض إدوار الخرّاط. تفوح منه روائح راقية، كما أنه مناضل سابق معروف قام ضد الإنجليز المحتلين. ولقد صدرت له رواية بعنوان "رامة والتنين " وهي من بين ما قرأت أيام شبابي الأولى في بساتين القاهرة الشهيرة. فيها ما هو شيّق، وفيها ما هو .. مبهم. خفت أسأل الأهل عن بعض الجمل الصعبة.. رواية فزيعة كده. تقراها انت لما تكبر!

خضّتني الجملة الأخيرة.

- لكني مستعدّ الآن أيتها الشيخة! (كدت أن أصرخ)

أدارت وجهها الى أعلى بشيء من الاسنتكار، نافثة تجاهي سحابة استمدّتها بقوّة من سيجارتها الأنيقة الطويلة. كالتي تقول: اوفت.

هكذا ودّعتني الملكة سبأ، محذّرة إياي، ملفتة انتباهي الى شرّ ما يربض في هذا الكتاب، فكان الممنوع مرغوباً.


لديّ نسختان من الرواية إياها، الأولى الصادرة عن دار الآداب البيروتية، جلبتها بشيء من الاستشراقية من المكتبة الألفبائية الواقعة قبالة الجامعة الأميركية في شارع بليس.

حدعش دولار!

خدي يا مدام!

ثانك يو.

تمت عملية الاقنتاء.

أمّا النسخة الثانية، الصادرة عن دار المستقبل المصرية بمطابع القاهرة والفجالة، فلقد جلبتها بقدر أكبر من الاستشراقية من مكتبة دار المستقبل الواقعة في أعالي شارع صفية زغلول بالإسكندرية. إن الزائر اليها ليجد فيها كومات من الكتب، بعضها منتاثرة وبعضها متناسقة، تطغى عليها مؤلّفات المشاكسين القدامى أمثال: الدكتور فرج فودة. والدكتور سلامة موسى. والدكتورة نوال السعداوي. ثم الأستاذ صنع الله ابراهيم، فضلاً عن الساحر الكبير ذات نفسه: إدوار الخرّاط. وغيرهم.

دخلت ذات يوم باحثاً عن بعض ما فاتني من رونق النضالات المكسوّة بالغبار.

راح فين؟"

دهوه"

كتب قديمة؟"

آه شكلها كدا"

التفتّ الى مصدر الهمسات الخفية، فوجدتها صادرة عن شابين عشرينيين متداخلين في بعضهما البعض. خرجت من المكتبة بعض الاطلاع على بعض الأغلفة الخرّاطية، التي يرسم أغلبها الفنان المعروف عدلي رزق الله. عبرت الشارع بخطوات متّئدة، من دون أن أصطدم بسيارة من السيارات.

وأنا أمشي الهويدى، مواصلاً مشواري، اذ انتبهت الى من يتّبعني. توقفت فجأة كي أتحقق في الأمر.

“...ممكن نتعرّف؟" قال.

فيه حد حاشك؟" قلت.

تعارفنا على بعضنا البعض، فعرفت أن هذا الرجل اسمه أحمد، وهذا الرجل اسمه إسلام. عندما تقابلنا بعد ذلك بأسبوع، على كورنيش البحر بحيّ لوران، أصبح أحمد اسمه إسلام وإسلام أحمد. إلا أني لم أبالي كثيراً بذلك. فما الأسماء إلا إشارات شكلية تميّز هذا عن ذاك، تم الاتفاق عليها في ظروف اجتماعية معيّنة ما أسهل تفكيكها وفضحها. إنه نظام مبني على الاختلاف، أي التمييز. ومنه المعاني الكبرى.

تقصد ايه بالظبط؟" قال أحمد-إسلام. وقد تركنا إسلام-أحمد.

قصدي مش عارف. يعني ممكن لو تحب نروح السيما، ولا نروح حتة تانية مش فارفة معايا.”

لا مش قصدي كده. قصدي يعني، عندك شقة ولا نازل في فندق؟"

عندي شقة، عندي فندق، عندي بحر. والبحر أمامكم والعدو خلفكم. أما التبن والشعير فاعطيه لحلفائكم.”

والله مش فاهم حاجة.”

عندئذ، أدار رأسه الى أعلى بشيء من الاستنكار، فنفث تجاهي سحابة فضية استمدّها بقوّة من سيجارته الأنيقة الطويلة.


عدت القهقرى الى مكتبة دار المستقبل الواقعة في أعالي شارع صفية زغلول الموقّر، وخبأت نفسي في ركن مظلم من المحلّ محاولاً الاتصال بصاحبة الجلالة بلقيس.

الرقم الذي طلبته غير متاح موقتاً. يرجى إعادة المحاولة فيما بعد.”

اللعنة. يبدو أنها تسهر سهرة ملعلعة مع الملك سليمان، الملمّ بلغة الحيوانات كافة.

الرقم الذي طلبته غير موجود في الخدمة..”

حسبي الله ونعم الوكيل. طرحت الموبيل على الأرض ودهسته عدّة مرّات بشبشبي المهترئ. فيما بعد، أهديت نسخة من الكتاب الى صاحبي أحمد، فقال لي بعده "إدوار خرا" و"يطنب" وما شابهه من نقد لاذع للمؤلّف. لكنني أصررت عليه أن يحتفظ به، اذ أنه يعتبر من الوصايا الثلاث، المكرّسة من قبل صاحبة الجلالة ذات نفسها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق