24 أكتوبر 2009

يا دولة الريّس

يا دولة الريّس

قال الجاحظ نقلاً عن الزهري: إن سمعتَ أدباً فاكتبه ولو في حائط.
ولعلّه أضاف، لولا أنه توفّي الى خالقه من زمان مضى وانقضى: اذا ما تجوّلت في حواري أوستن العريضة، فقم بمطالعة حيطانها الناطقة.

سمعاً وطاعة يا معلّم.
أو قد نقول: من عيني دي قبل عيني دي. ثم بالعينين كلتاهما.






















" يا سيّدي الرئيس: ماذا عن الشواذّ ؟ "

اعرفوا أوّلا أن المدن الأمريكية ليس لها حواري، وبرغم مما شاع عن مدينة شيكاغو خاصة فإنها تتمتّع بشوارع عريضة منفتحة زي الفلّ، شوارع مفشوخة للتنزّه والتسوّق، لا تنسدّ ولو أقيم ألف حاجز. وهذا الواقع الهندسي كما أظن، يميّز المدن الأمريكية الكبرى عن أخواتها الحضارية في بقية أراضي المعمورة ككل. وهو الواقع الذي يصدّ للقلقلات والزعزعات على أنواعها، ويحافظ على استقرار البلد على المدى البعيد. هذا لما يكون للشوارع من فراغات يصعب سدّها، وفتحات يتعذّر عرقلتها. فإنك اذا أردت تحقيق هدف من أهدافك الثورية، وقصدت هزهزة ركن من أركان البورجوازية، اذن عليك القيام بما يلي:

ألفاً) الإمساك بكتابك الأحمر المفضّل (هنا يصعب الاختيار بين هذا وهذا)
باءً) النزول الى الشوارع
جيماً) تعطيل السير

والمرء اذا اتّبع هذه الخطوات بجدّية سيصل الى لحظة يدرك فيها استحالة تنفيذ (جيم). وهذا، بكل بساطة، يرجع الى الهندسة المدنية الأمريكية التي تميل أكثر ما تميل الى الطول والعرض، دون التقشّف والاقتصاد. فاذا كنت تقرأ هذه السطور وانت في شيكاغو، سيحدث ما يلي:

أولاً) ستمسك بكتابك الأحمر المفضّل (بسيطة وفهمناها)
ثانياً) ستنزل الى جادة ميشيغان المضيئة
ثالثاً) ستدخل محلّاً من محلّاتك المفضّلة، وتشتري بعضاً مما يحلو لك
رابعاً) ستركن عند أول ستاربكس تصادفك، ثم تفتح كتابك الأحمر وبذلك تلمّ بتفاصيل الثورة الاشتراكية، بالإضافة الى الشيء الكثير من دقائق اللغة العربية

وبذلك تكتسب شيئاً من الثقافة، بينما تشعر بتأنيب الضمير لانحرافك عن النشاط الثوري المباشر. ثم تلعن الهندسة التي أجهضت الإمكانيات اللانهائية.

لكنك لست في شيكاغو، فاحمد ربك على نعمته. وحتى لو كنت في شيكاغو، وربما تكون كذلك، فهذا ليس قضيتنا اليوم للأسف الشديد، إنما قلنا أوستن وحيطانها. ولهذا الكلام إفاضة.

فإن المرء اذا ما قام وتجوّل في شوارع أوستن العريضة - التي اتفقنا أنها ليست بحواري - فإنه قد يلفي نفسه منشغلاً ببعض ما ازدانت به حيطانها. ومنها ما تكلّس جبصه، فتبقّع وجهه وتسكّرت بعض ملامحه، إلا أنه ما زال حاضراً، متقدّماً في رونق الأصالة المجروحة، المهدّدة. ولأن مدينة أوستن هي مدينة الهيبستر فلن تجد مثل هذا الشعر الذي يبزّ عواطف وحنين، إنما ستجد ألوان العنف والحقد قد لُطّخت هنا وهناك، وقدراً كبيراً من مخربشات الدهان الرخيص، غير المرخّص. الكثير ينزعجون من الهيبستر، فيُروى على سبيل المثال أنهم كانوا في الأصل عبارة عن ثوريين حقيقيين، همّهم الأول والأخير الهجوم على الشللية والنخبوية أينما وجدوها. إلا أنهم مع مرور الوقت، وتكلّس الأحوال، صاروا جزءاً من المجتمع الأمريكي المعتاد، اعتزلوا وتعصّبوا فاستحالوا الى طائفة من الطوائف المعروفة.

إلا أن الهيبستر ليسوا موضوعنا اليوم، للأسف الشديد.

ولا أعرف، على كل حال، إن كان واحد منهم من رسم الصورة أعلاه، بل أشك في ذلك، اذ أنهم كثيراً ما يقال عنهم أنهم يهتمّون بالحقد من دون التغيير، والمزيكة الصارخة دون السياسة ومصالح الوطن العليا.

اذن، فبينما أنت مطّلع على اللوحة المخربشة إياها، تشعر بأن هناك من يقترب منك من وراء. بل إنك لتشمّ رائحته قبل أن يتبيّن شكله، وعندئذ ستدرك أن هذه الجثّة العملاقة، المتلصّصة الفوّاحة، ألا وهو داوود الوحش، أحد سكان هذا الشارع المعروفين. لكن يجب الانتباه. اذ داوود الوحش هذا، الذي يكون بلا شك من بين الوجوه الصباحية المعتادة - التي تصادفك عند ذهابك اليومي الى الجامعة - ليس وحشاً حقيقياً، إنما هذا مجرّد لقب اختاره داوود لنفسه. فإن داوود الوحش، في الواقع، إنسان لطيف، يسرّ أكثر مما يضرّ، كومة مرحة من اللحم والدم، دائماً ما يكتسي ذاك القميص الملوّن الفاقع، وفي يده لافتة كتب عليها، مثلاً:

" إن الله هو المحبّة، إلا إن كنت من غير المسيحيين "
أو
" دع عنك لومي فإن اللوم إغراء "
أو
" ابتسِمْ ، فإنه ينفع أكثر مما يضرّ "

ونحو ذلك. وأنا أذكر داوود هنا لما حدث بيني وبينه منذ أسابيع قليلة. فإني لأزعم أن داوود الوحش - وعلى الرغم من مروري أمامه ما يزيد عن مرّتين كل يوم منذ حوالي سنة - قد انتبه أخيراً الى وجودي أنا. فإنني بعد أن كنت منشغلا بتأمل الصورة أعلاه، التي تزدان بها احدى حيطان أوستن المتجبّسة، أخذت في مواصلة المشي على الرصيف ناحية الشمال. عندئذ، عندئذ فقط، لاحظت داوود ذات نفسه على مقربة مني، وهو جالس منجعص تحت شجرة بلوط. التفتّ اليه، وقد صدر منه الشيء القليل من الرطانة والهلضمة غير المفهومة. أجبتُ أنا بمثلها - وهذه لهجة أجيدها - وتبادلنا الابتسامات. ثم كمّلت مشواري.

يقال إن داوود يعاني من مرض نفسي ما، أظنّه الانفصام الذهني، وهو من شرّ ما قد يصيبك من داء. لكن المؤكد أن هذا مجرّد تصنيف ينقذ البورجوازيين من قلقهم والإحساس بالذنب. هذا البشر يذكّرني بصاحبي توماس، الذي قرّر ذات يوم أن يتعرّى تماماً من لبسه، فتجوّل متهرولاً في شوارع بلومينجتون - الواقعة في سهول ولاية انديانا. ولماذا يحتاج توماس الى اللبس، قيل، وهو النبي آدم عليه الصلاة والسلام، قد سكن الجنّة مع صديقته العارية هي الأخرى. لم يقبل ضباط المطافئ هذه الحكاية منه، فقبضوا عليه ورموه في السجن. الآن، توماس كثيراً ما يوصلني الى مكان ما وأنا في شيكاجو، يقودني في سيارته الى مطرح ما بدّه.

أدرك عند هذه النقطة أنني قد سهوت تماماً عن صورة أوباما وعلاقته بالشواذ جنسيا. كما أني قد سهوت أيضا عن المخربشات والفنون المتعلّقة بها في أراضي أوستن الوعرة، وغير الوعرة منها. فلهذه السيرة استئناف فيما بعد.

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف11:06 ص

    مصــــر فى مهب الريح

    فى خلال الثلاثين عاما الماضية تعرضت مصر الى حملة منظمة لنشر ثقافة الهزيمة بين المصريين, فظهرت أمراض اجتماعية خطيرة عانى ومازال يعانى منها خمسة وتسعون بالمئة من هذا الشعب الكادح . فلقد تحولت مصر تدريجيا الى مجتمع الخمسة بالمئه وعدنا بخطى ثابته الى عصر ماقبل الثورة .. بل أسوء بكثير من مرحلة الاقطاع.

    1- الانفجار السكانى .. وكيف أنها خدعة فيقولون أننا نتكاثر ولايوجد حل وأنها مشكلة مستعصية عن الحل.
    2- مشكلة الدخل القومى .. وكيف يسرقونه ويدعون أن هناك عجزا ولاأمل من خروجنا من مشكلة الديون .
    3- مشكلة تعمير مصر والتى يعيش سكانها على 4% من مساحتها.
    4 - العدالة الاجتماعية .. وأطفال الشوارع والذين يملكون كل شىء .
    5 - ضرورة الاتحاد مع السودان لتوفير الغذاء وحماية الأمن القومى المصرى.
    6 - رئيس مصر القادم .. شروطه ومواصفاته حتى ترجع مصر الى عهدها السابق كدولة لها وزن اقليمى عربيا وافريقيا.

    أرجو من كل من يقراء هذا أن يزور مقالات ثقافة الهزيمة بالرابط التالى www.ouregypt.us

    ردحذف