04 ديسمبر 2010

وتسألون عن الصندوق الأسود


وتسألون عن الصندوق الأسود

هبّت الرياح وارتطمت أمواج الملح بشواطئ المعمورة، تزبّدت سوائلها وتفجّرت، تفتّحت على جثث الطحلب النافقة، الممزوجة بنسغ القزحية وفقاقيع البرزخ.. والشيح والقيصوم أيضاً، فقط جرعات متكوّرة منها، حفنات مدوّرة صغيرة من الأملاح الحامضة والخضروات النقاضة.. كل هذه، اصطفعت بخطوط الرمال الممتدّة حتى الأفق: هكذا هي الأحوال في جزر المحيط الشمالي، بلاد الثلج والجليد والأجهزة العلمية المتطورة، الصادرة عنها أشعّة غريبة يخشى منها الكافر قبل المؤمن، هكذا..


***

المدوّن صاحب هذه المدوّنة: أنا لا أحبّ هذا البرد، البحر عندي هو شيء رحيب، مالح نعم لكن فيه دفء، وإن اختلط في هذا الدفء الكثيرُ من الخطر والانزلاق نحو الأعماق..


***


شتّان ما بين جزر المحيط الشمالي وبين الجزيرة المغناطيسية، الواقعة في بحر المرجان قبالة الساحل الشمالي الشرقي من أستراليا، الجو فيها رطب لطيف، قلّما يخدش المشاعر، يرتاح فيها الصغار مثل الكبار ومنها يرزقون، هذه الجزيرة المغناطيسية أُطلق عليها هذا الاسم للطاقة السحرية المتذبذبة التي جذبت اليها القبطان برعي القتّات، الرحّالة والمستكشف اليماني الشهير الذي عثر عليها أثناء طوافه حول العالم سنة ألف وستة مئة وستة وستين، نفس السنة التي أُحترقت فيها مدينة لندن الكبرى، بما فيها من مسارح ومتاحف وسجون وعمارات..

سجّل القبطان في مذكّراته جملة من الملاحظات الصغيرة، تصبّ في تلميحات جانبية لكنها كبيرة، مفادها أن هذه الجزيرة تحيط بها هالة مبتهجة من النور الخالص، تحبس الأنفاس، هذا بالإضافة الى تلك النجمة في الأعالي، المصادفة في مدارها في ذلك اليوم ببرج العذراء، أو برج العقرب لا يعرف، كلها تعد أو تتوعّد بغد مشرق، ثم ولادة طفل رضيع يستبشر بمزيج من الخير والشر.. ربما..


***


الدكتور فاوستوس. السيّد لي تيبينغ. السيّد دافيد كوبرفيلد. جاندولف الأبيض. جاندولف الرمادي. ماجنيتو. لا يتّفق اثنان حول اسمه الحقيقي. لا يعرف أحد أين يقيم حاليا: هل هي أيسلندا؟ انجلترا؟ احدى جزر المحيط الشمالي لا شك.. لا أحد يعرف أين مسقط رأسه، المؤكد أنه مرّ على الجزيرة المغناطيسية أيام طفولته، لذا آخر ألقابه المذكورة، لكن.. حتى هذا الخبر يكذّبه البعض، هو لقيط تم العثور عليه في مخيّمات السرك المتحرّكة على الدوام، من يدري؟.. من يشعر؟ لكن ما من أحد يجهل ما بحوزته الآن: ذاك الصندوق الأسود، الذي وقوده الحجارة والناس.. اذن فشأنه خطير لا ريب!


***


" اشفيني أيتها الشقراء، أمدّيني بالحقن والضمادة والإسفنج والمسكّنات."


***


فقرة من رسالة بعثها الى وزارة الخارجية الأمريكية:

عزيزي سفير الامبراطورية،

تحيات طيبة وبعد. كما تعلمون فقد اكتشفنا مكان الصندوق الأسود، وهو كل ما نحتاج اليه كي نشغل جهاز الميتيوفيريوم العظيم، عزّ شأنه وجلّ. لا نطلب فدية لكن مطالباتنا معروفة، واضحة لا يشك فيها كائن حيّ، حيث أننا أجرينا مكالمة هاتفية بهذا الصدد يوم الجمعة الماضي. الرجاء الاتصال بنا بأسرع وقت ممكن فتحذروا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.

فقرة من رسالة بعثها اليه السفير:

عزيزي ماجنيتو،

نحن حكومة الولايات المتّحدة الأمريكية لا نتفاوض مع الإرهابيين.

فقرة من ردّه:

عزيزي السفير،

الظاهر أنك فاكرها مزحة. فلتذوقوا طعم الحنظل ولتموتوا غيظاً.


***


" اشفيني أيتها الشقراء، أمدّيني بالحقن والضمادة والإسفنج والمسكّنات، والشطّافة.. "


***


مطلوب: مشرف/ة على مرحاض الملك

تصنيف الإعلان: مطلوب للعمل

رغم الإعلان: 38287 ب، انجلترا

تاريخ الإعلان: الثاني من سبتمبر، 1566 م

تفاصيل الوظيفة: من أقرب المقرّبين الى جلالة الملك وجسده المبارك، كاتم سرّه وحافظ لسانه ومخلّفاته، الرجاء التعامل برفق مع سويداءه كما صفراءه، في السرّاء والضرّاء، في الإسهال والإمساك وما بينهما، أللهم جعلتَ فداءه


***


جهاز الميتيوفيريوم ووقوده الصندوق الأسود. هذا الجهاز يُشهد له بالوظائف التالية: تشكيل الغيوم الممطرة، وإثارة الزوابع الحمراء، وإطلاق ما اُختزن في البحر من رعد محتوم: أي باختصار، التحكّم في الأحوال الجوية للكوكب.

قال بعضهم إن هذا الجهاز ما هو إلا تنويع على فكرة قديمة جرّها علينا من قبل سلالة طويلة من المجانين والفاسقين والمتمرّدين من القوم. وقالوا إن ماجنيتو معتوه، ومجرم، لن ينجح في نهاية المطاف. شكّكوا في نواياه، ونقّبوا في دفاتره وشهاداته، فاستهزأوا واستخفّوا. إلا أنهم لم يسمعوا بعد عن تلك الآنسة الودودة، القريبة المقرّبة، جالينا ..


***


الأحوال في المحيط الشمالي مضطربة، تكثر الانتحارات وتنتشر الإرهاصات، تظلّ البواخر الغريبة تلتطم بسواحلها العجفاء، كله بصراحة خرا، لا أكثر ولا أقلّ، لكنني مع ذلك مبسوط، بل مبتهج، وأتطلّع الى المزيد في الأيام القادمة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق