15 أغسطس 2010

رسائل كلاسيكية

رسائل كلاسيكية*

*(رسائل كلاسيكة) هي مجموعة من الخطابات المتبادلة بين الحرّ الفقير وبين العلامة العظيمة، شمس اللغات وكوكب اللهجات، صاحبة الثلاثية المثلّثة الأستاذة كريستن بروستاد. ورغم مرور شهور كثيرة على تأليف هذه الخطابات، إلا أني لم أجد غضاضة في نشرها هنا، وإلصاقها ببعض التطورات العلمية والمستجدات المعرفية التي طرأت على النصّ الأصلي.

أيتها الأستاذة الكريمة، تحيات طيبة و بعد،

هنا بضعة حقائق وقفتُ عليها، وعدّة مشاهد تفرّستُ فيها:

فلقد اعتاد البشر المسالمون في عصور الجاهلية البائدة: (1) ارتياد أماكن البهجة، (2) والتنزّه في الحدائق الغنّاءة، (3) إضافة الى ما عُرف أيامها بدلج الليل(!). إلا أن الواحد منّا يجب ألا يتغاضى، ولا يشيح بالوجه ويتناسى، عن تلك الطقوس التي كانت تقامْ، وتلك الشعائر التي امتلأت فسقاً ولوثاً وحرامْ، في البيت الذي شيّده النبي ابراهيم عليه الصلاة والسلام. ولا تتبقى لنا دلائل ثابتة، ولا قرائن نابتة، تصوّر لنا ما كان يجري بجلاء ووضوح، كما أنه لا ينفعنا النقد والفقد والجرح المنكوء، المفتوح. فليكن هذا شغل الصحافيين والقناوات الفضائية. المؤكّد على كلّ حال ما كان تحظى به الكعبة في العهود المنصرمة من متعة ولذة وهيبة واحترام. ومن دعائم هذه الحال، وركائز هذا الرونق والجمال، ما كان يجري من تعليق القصائد السبع المختارة، وكانت المعلّقات. فهنا مجال غني للبحث، ومساحة ثرية للتحرّي والفحص: العلاقة بين سطوح التدوين، وعمليات التقييم، ممّا يلقي بعض الضوء على عناصر الذوق والتأمّل والفيس-بوك اللعين.

إن ما يلفت النظر في قضية المعلّقات هو ارتباط الاسم بالسطح الذي عُرضت عليه. اذ كانت قد عُلّقت، فجاءت التسمية تعكس هذا الوضع. ولم تكن هذه العادة غربية على عواصم الشرق، فقد عرف الفراعنة وحضارات ما بين النهرين قصوراً ومعابد وبرابي ازدانت حيطانها بأشكال الأدب والكتابة الظريفة. كل هذا مألوف، معترف به، مشهود له بالقداسة والأناقة والفنون الجميلة. فتوافد الناس أفواجاً من أطراف المعمورة المتباعدة، فسكنوا فيها أياماً، مندمجين في أعمال التهتّك، منخرطين في الدعة والتسيّب. وأشْعِلتْ المباخر وتشوّشت المشاعر، بينما ترفرف المعلّقات متدلدلة فوق الرؤوس. واستمرّت الأحوال على هذه الأشغال لأمد طويل، وجاء الإسلام فاستبدل القصائد بآيات القرآن الكريم: لكن بقي الوضع واحداً: كلمات تُكتب على الحائط، تُعبد وتقام حولها طقوس الدين والدنيا.

هبّت الرياح واكتسحت العالم قوات الحداثة الشهيرة، توسّعت أنظمة الملك الخاص والبورجوازية القلقة، القابعة في بيوتها المنعزلة: خلايا ميّتة لا ترتبط ببعضها البعض، تستشري عائثة في الأرض فساداً. واذ تمّ فصل القشرة عن القاع (مرّة أخرى، لكن بطرق جديدة)، كما تمّ فصل البراز (لا مؤاخذة) عن الشوارع والزواريب (وماعادش فيه زواريب كمان!). ونزلت الخرسانة في الأراضي، فتمّ بناء الحيطان العامة. هنا غدت المخربشات، وأنواع الكتابة الأخرى، ممنوعة على هذه السطوح. الى درجة أننا رأينا قيام بعض الحملات الحكومية، والمشاريع المدنية، ضدّ ما يسمّى بالجرافيتي والتخريب. فنظام النظافة قد حكم، ومساحات التدوين قد ضيقت أكثر فأكثر.

لكن عبثاً. فقد انتصرت المخربشات وحقّقت لنفسها قيمة فنية رسمية، الى جانب إدراجها في ترسانة أسلحة المقاومة. وبينما استمرّ التوتّر ما بين الجهتين - مع وضد المخربشات - إذ هبطت على رؤوسنا مساحة جديدة للتدوين ألا وهي الانترنت. وبعث أذرعه الأخطبوطية الى كل بيت، الى مقابع البورجوازية كما الى مصانع المهلبية. وأقيمت الحيطان مرّة أخرى، فيما يسمّى بالفيس-بوك، وأجيز نوعاً من الكتابة هناك.

وهكذا كان، لولا أننا نشكّ في صلاحية الرواية التاريخية المعتادة، التي تمحو التفاصيل وترجّح كفّة التعميم والمواويل. فالوقوف عند المعلّقات دون أجناس المخربشة الأخرى سيلقي بعض الضوء أيضاً على حوائط من عالمها، ومساكن أحداثها، إضافة الى جوانب لا بأس بها من الحياة اليومية التي كانت تعجّ بها وتحيط. وأول ملاحظة في هذا السجل موضع القارئ الحاجّ، القادم الى بيت الحرام من مكان قصي. كيف يتعاطى مع هذه الأبيات المعلّقة، وهل يسمح له بالدخول اليها أصلاً؟ وهل تكون تجربة تلقّيه لها شفوية أكثر، أم بصرية؟ ونشكّ في كونه حاجّاً، اذ أكثر من كان يصادف هذه الكعبة بمعلّقاتها كان ولا بدّ من أهلها المختارين لرعايتها والحفاظ عليها. كاهن، مثلاً، حضر الى البيت كل يوم سبت، كي يسقي الأصنام ويرشّ العطر والورد. ولعلّه توقف لحظة، واستنشق الرائحة الصخرية الفذّة، فتفكّر:

- أكان عنترة أشعر، أم إمرؤ القيس؟

ودسّ يده في جيبه، وأخرج قلماً، فدوّنه اسمه وتاريخ ميلاده على جزء مظلم من الحائط .

المخلص،

---

ثم وبعد المزيد والتفكّر والتأمّل ، قرّرت أن أتراجع عن بعض الأفكار التي قدمتُها هنا، فلقد رسى يقيني على أنه لا يجوز تناول الحائط على أنه شيء له تاريخ في حد ذاته، إنما الأصح أن نبحث في العمل وراء الحائط، وتحته وأمامه في بعض الأحيان. هذا نظراً للفرق الهائل بين البيت الحرام ومعلّقاته من جهة، وبين الفيس-بوك وحائطه من جهة أخرى، من حيث الجهود والنوايا والممارسات الجارية وراءه، وتحته وأمامه في بعض الأحيان. وهذا خطاب آخر سأكتبه في اللاحق بمشيئة الربّ عز وجلّ