23 مارس 2011

تنجيم الشعر وتشعير النجم

تنجيم الشعر وتشعير النجم

انتبهت لأمر محيّر، هو أني سهوت عن الكتابة في هذه المدوّنة المتواضعة لما يزيد عن عدّة أسابيع أو أكثر، وذلك رغم طول المناجاة بيني وبينها على مدار الساعة، وقبل انبلاج الفجر على وجه الخصوص، أناجيها وتناجيني ونسرّ لبعضنا البعض بخبايا النفوس ونوايا البجعة والناووس، فاعرفوا ان انقطاعي عنها أردّه لثلاثة أسباب، السبب الأول انشغالي بمتابعة أخبار الثورة، والسبب الثاني انكبابي على إعداد رسالة الدكتوراه – وتفصيل ذلك سوف أورده في التدوينة القادمة – أما السبب الثالث فهو ببساطة اني كتبت تدوينة مطوّلة في الشهر الماضي، مما ظننته كافياً لإشباع شهوة الوحش الافتراضي ونهمه، لكني مع ذلك رأيته من العاجل والضروري أن أجّدد العهد، وأشدّد الوفاء، وإن جاءت هذه التدوينة القصيرة لتنقل اليكم إبداع شخص غيري فلا كبير ضير في ذلك.

أبثّ اليكم اليوم بعض ما ترجمت من شعر الزميل عبد الحقّ تشانج، فأنقله عن الأصل الأردويّ بما قُدّر لي من صدق وإخلاص للحرف والمعنى الأصليين، والله الموفّق والمستعان.

قال الشاعر:

اعتراف على هضاب مونولوج انطوائي"

غريب، اغرب.. أهذا ما يقذف به صمت القشعم؟

بهيمة البهائم، أبهمتني

سلعوة الرغبات، بومة الخطايا

وماذا أيضا؟

متقول طيب، متنطق ياض، ارفع حسك ولو بالهلضمة

صمتك حقل لامبالاة ملغّم... مسامّ جسدك متشظّية كلها في الماء وكأنها قطرات من الهواء

عاموديا ، أفقيا ، الطرد المركزي والجذب المركزي، حطّه السيل من علِ!

ضاعت مني الخرائط كافّة، لا اليمين أدركه ولا اليسار (اسأل أصدقائي)

مَطَرُ العَلْقَمِ أَعْشَبَ الفَيْفَاءا

بِأَشْجارٍ جُذُوعُها تُعَشِّشُ طُيُورَا

ونحل يلسع وجهي

في أجمة البهائمية

أنا شبح في رحم المعز

لِديني يا داية الحياة، من جديد

يا أمتاه يا أحبار يا أخلّاء: ها هي الأشواك البرّية تتسلّق صدري فحلقي فوجهي، وتنمو

لِمَ لا تتركني لحظة الريزومات والجنون

أَرَدْتُ أنْ أُصَحِّحَ القُمْقُمَ" هكذا توشوش المنايا الآفلة

أيتها القواميس البخيلة:

آيات الوجودية أين أجدها؟

دعونا نتمسخ في اللا-كونيوية

دعونا نحرق خرائط الترانزيتوية

دعونا نتوه في الأنوية، في الأنواتية، في البتاعوية..

وهنا توقفت عن عملية النقل، صحيح أني حرّفتها قليلاً بما يتماشى وذوقي، لكن بصمات دلوز واضحة في الأصل تركتها كما هي، واضح أن الزميل متوغل في مطالعة نصوص الفيلسوف المجيدة حيث أنه يذكر عملية تنقيب الشيزوفرنيا أكثر من مرّة (حذفت هذا الجزء، اذ استثقلته).

أما موقفي من الشعر بشكل عام فأقول بشيء من الصدق الممزوج بالمراوغة أني أقدّر بعض أعمال أبي نواس، الى جانب أعمال من الطراز الكلاسيكي – الشنفرى مثلاً - وأخرى من الطراز الحداثي – تي اس اليوت مثلا - لكني أحتار في الحزم بشأن المدرسة الحداثية: أبسبب التلقين أحبّها، أم لما فيها من شعرية وإيقاع؟ علم ذلك عند الله، لكني قد أوضّح رأيي هذا من خلال إيراد رسالة بعثتها ذات يوم الى الأستاذة كريستن بعنوان: صَوْتُ الظَبْيِ هُوَ البُغاَم، وما أَدْراني ما صَوْتُ الحَمَام، لكنّ صَوْتَ الِقتَالِ بالتَّأكِيدِ هُوَ أَبُو تَمَّام! وكتبت فيها ما نصّه:

دعنا نتصوّر: أمير المؤمنين وهو جالس منجعص على عرشه الشاهق الوثير - الذي طوله أكثر من ثلاثة أمتار خشب، وعرضه يزيد عن الخمسة، تغطّيها أنواع النمارق والمخدّات - وفي يده كأس من الخمر الأصهب. يعربد ويتقصّع، يأمر وينهى والمرح يتقطّر من فيه. حينئذ، وفي وسط الصخب والانشراح، ينفتح الباب على مصراعيه، فتدخل الى المجلس فرقتان اثنتان لا ثالث لهما: الفرقة الأولى تتألف من جماعة المنجّمين، والعرّافين، والسحرة والكفرة والنافثين في العقد. أمّا الفرقة الثانية فمن إنسان واحد ألا وهو سيّاف جريء، سفّاح بذيء يسمّونه: أبا تمّام. وذلك لطول لسانه، وليس سيفه. يسود الظلام، يجثو الشكّ على صدور الحاضرين، لا أحد يعرف، لا أحد يدرك: أحرب هي، أم مزيد من المفاوضات؟ جيوش الروم محتشدة في الشمال، قوية نعم، إلا أنها قد انتشر فيها قدر لا بأس به من الكسل والخذلان، فقد شبعت بدماء الشهداء الأبرياء في زبطرة وملطية. يتقدّم رأس المنجّمين الى حيث أمير المؤمين:

" يا صاحب الجلالة..."

" اسكت بقى انت وهو!"

[بصوت منخفض] "أمرك يا سيدي.."

" لقد عقدت عزمي على فتح الحصن الحصين، المكان المنيع، مسقط رأس الامبراطور نفسه، المدينة المسوّرة التي يسمّونها عمورة. إنّي لن ينقضي همّي، ولن يرتوي عطشي، إلا بعد القضاء على تلك المدينة الملعونة بمن فيها، رجالاً ونساءً وحميراً وبطاً، إنه الثأر!"

وران الصمت في المجلس، اذ ما من أحد يجرؤ على مقاطعة الخليفة المعتصم، إلا وقُطعت رأسه. لكن رأس المنجّمين هو من ذلك النوع من الجفاة السفهاء، فتقدّم مرّة أخرى قائلاً:

" لقد أبصرت في سماء الليل أيها المعتصم، فلكاً أصفر لا يبشّر بالخير، قد وقع موقع ما بين الدلو والعقرب، فما كان مني إلا أن أهرعت الى الدار، وفتحت هذا الكتاب، فوجدت فيه ما لا يتسرّب اليه الشكّ: إنّ الغزو في هذا الوقت لأمر طائش، وفعل نزق، ستندم عليه ندم النادم على عضّ أصابعه، أقصد: سوف تعضّ أصابع الندم."

عندها قفز أبو تمّام الى حيث المنجّم الجريء، فاستلّ سيفه البتّار وجعل منه ومن كتابه أشلاء، وهو يقول:

السيف أصدق أنبـاءً مـن الكتـب في حدّه الحد بيـن الجـد واللعـب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهـن جـلاء الشـك والريـب

تبسم الخليفة بخبث وهو يقوم مصفّقاً لما يراه.

***

هكذا اذن وُلد شاعر الحرب، المحرّض على القتال والمدافع عن توحيد السلطة. اذ أننا نجد في عداوة أبي تمام للمنجّمين (وهم بمثابة الوثنيين) عداوةً مبينة لتعدّد الأصوات، وكراهية مشينة للتنوّع في الكلام الذي من شأنه أن يزرع الأرض ببذور الديموقراطية الجذرية. هنا ردّ قوي على كثرة الآلهة، وطفرة الأبالسة، التي تحثّ على التشاور والتفاوض وتعقيد الأمور. أما رغبة أبي تمام ففي فكّ هذه العُقَد، لا النفث فيها، اذ يرى في ذلك الطريقَ المبين، والصراط المستقيم، المؤدّي الى النصر والتغلّب ومركزية السلطة - ولو بعد حين.

وكما هو واضح من رسالتي هذه، فإني من النوع المائل الى المنجّمين أكثر مني الى الشعراء، عليكم فقط ان تقارنوا ما بين هذه الفقرات القصيرة من النثر وبين ذلك الشعر الأزرق أعلاه، أيهما أمتع، أيهما أشد فتكاً وأضرب فنكاً، ولتستشيروا في ذلك المنجّمين قبل الشعراء، والزحّل قبل الزهراء وما الى ذلك..