22 ديسمبر 2011

حاضر المستشرقين وسرّ فشاختهم

حاضِر المُسْتَشْرِقِينَ وَسِرُّ فَشاخَتِهِم

بسم الله الرحمن الرحيم الواحد السامي العظيم ملك يوم الدين والصلاة والسلام على أسعد الخلق أجمعين سيدنا محمد العربي القريشي الأبطحي القحطاني ثم نوجّه بدافئ المودّة وساخن المحبّة إلى قلوب القارئين وصدور المطالعين لكم المياه المعدنية والأحذية المقتناة حديثاً وأجهزة العرض والتصوير الالتكرونية آمين..

اعلموا يا سيّدات وسادة أن الأرض لما كان عليها من غرائب مثيرة وعجائب منيرة وأن السماء لما أغدقت علينا من سوائل فاتنة ورذائل خاتنة (فكّروا فيها شوية هتلاقوها خاتنة فعلا) فقد دفعت الأنام دفعاً إلى كشف المخبّأ وإفراغ المعبّأ، ممّا أجبر العالي الجبّار على الانتباذ عن المشهد الكوني بمقدار شبرين ونصف شبر، وقيل ثلاثة أشبار ليسمح لبني آدم أن يضربوا ضروباً في العلم حتّى جحدوا فتخلّوا عنه تعالى وسلكوا مسالك في المعرفة، ثم قسموا هذه المسالك إلى طرقات، وهذه الطرقات قسموها إلى عطفات، وهذه العطفات قسموها إلى أزقّة والأزقّة إلى جهات والجهات إلى نيات وهكذا..

ومن خلال التخبط طويلاً في هذه المسالك وجدت فئة من البشر أنفسهم في موقع سمّوه الدراسات الشرق-أوسطية، الملقّبة أيضاً بالاستشراق، فاستشرقوا ، استشرقوا حاجة جامدة يا ميرفت!

لذا ولأسباب أخرى يصعب حصرها وعصرها فقد ألفينا أنفسنا وللمرّة الثالثة على التوالي في مؤتمر ميسا أي رابطة دراسات الشرق الأوسط إلا أن البعض ذهبوا إلى القول بكلّ جرأة واختراق أن كلمة ميسا إنما هي تحريف لكلمة الماسونية وهي طائفة من الكهنة المشعبذين يروق لهم من حين لآخر أن يبسطوا سيطرتهم على كامل أنحاء العالم وهم ملتجئون في ذلك إلى طرق أبسط ما نقول عنها إنها أخطبوطية أوندرجراوندية ما أشبههم في ذلك إلى المتآمرين الفاسقين الذي نرفع عنهم الحجاب ونميط عنهم اللثام في هذه الصفحات القليلة المختلسة من كتابنا الصادر قريباً العلوم الغامضة وكيف نحاربها.

في أن الاستشراق ملكة مكتسبة وليس خلقاً مطبوعاً

المؤكّد على أية حال أن هذا اللقاء السنوي بات مقصداً مهماً للمصابين بحمّى الشرق، فتقاطروا إليه أفواجاً أفواجاً، وسيقوا إليه بحكم الغريزة لا الإرادة، حتى ترسّخت لديهم عادات وتقاليد معيّنة في التحرّك والتجوّل الجسديَيْن، وتخثّرتْ عندهم طقوس وإشارات مشتركة هم غير واعين بها، مثل الجحرشة وهي الغمزة القبيحة الملقاة من بعد، والتكشيرة الرباعية أو السداسية وهي عندهم دليل على الرضى، كما انتظم في مشيهم توتّر ملحوظ، هو نتيجة الأزمة الوجودية الكبرى التي يكابدونها مكابدة جماعية لا فردية، إذ تراهم تواضعوا على تصرّفات عجيبة مثل لطم الخدّين، وضرب الجزمتين، ناهيك عن الشلشلة التي يمارسونها وهي عبارة عن شدّ الطرف من الملاية وجذبه أعلى القذالة والحنكين، ونحو ذلك، وقيل أيضاً إنهم يأكلون لحم البشر، وينهشون بعضهم البعض، وذلك فداءاً أو ديّةً لما ارتكب أجدادهم من ذنوب مثل سرقة الآثار، وجرائم الاستعمار، والشيء الكثير من العنف المعرفي، وما أدراك ما العنف المعرفي، والله أعلم..

وهذه العادات هي نتيجة الاحتكاك والتلامس المتكررين، ممّا يؤدّي إلى ما سمّاه البعض الطواف.. والثابت أن هذا الطواف من شأنه أن يحدث فيه أي شيء، وأن يحدث فيه لا شيء في نفس الوقت..

ومثيل ذلك أنه سرت بين هذه الجموع الحاشدة شائعةٌ مفادها أن حمّامات الفندق صارت غير صالحة للاستخدام، فقيل إن هناك فئة من السادة والسيّدات اتّخذوا حمّامات الفندق متلقى لهم للمضاجعة الحرّة، وقيل إن هناك عصابة من المشعوذين اتخذّوها مساحةً لإقامة حفلات السموّ الروحاني، فحدث نتيجة لذلك أن جلّ الأساتذة الزوّار تجنّبوا الحمّامات المذكورة وفرّوا متخبطين في شوارع المدينة بحثاً عن الحمّامات الصالحة للاستخدام، مما أدّى إلى تأخّر بعضهم عن ندواتهم، وضياع آخرين، حتى تناهى إلى مسامعنا أن هناك ثلاثة من جامعة جورج تاون، اختفوا تماماً، لم يُعثر عليهم بأثر..

واعرفوا أن سبب هذه الشائعة أن أستاذ متقاعد من جامعة بنسلفانيا كان يغسل نظارته الطبية في أحد حمّامات الفندق، وبينما هو على هذه الحال إذ هبطت على ظهر يده نحلة شمطاء غرزت إبرتها في طازج جلده، فتنهّد الأستاذ وندّت عنه شهقة بين التألّم والالتياع، ثم سقطت منه النظّارة لتجرفها المياه الساخنة المتدفّقة من الحنفية، ليلتقطها تيّار مساوٍ له في القوة مضادّ له في الاتجاه انبثق في تلك اللحظة من مرحاض تفجّر من تلقاء نفسه، فكانت الضربة القاضية التي جعلت الأستاذ المتقاعد يأخذ ديله في سنانه ليطير إلى مخرج الحمام، وكان مظهره كفيلاً بأن يبعث في جملة المشاهدين رعباً وفزعاً وارتياباً وشكاً، فكثر القيل والقال ليبلغ ما بلغ من بلبلة الأفكار وزعزعة الاستقرار..

فكان كما قال الشاعر:

كل الحوادث مبدؤهنا من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

وفي هذا الحشد الطائف، أو الطواف الحاشد، من المتوقع حتماً أن تصادف في تجوّلك هذا عدداً من الشخصيات المميّزة، والأنماط المعيّنة .. حتى ادّعى أحدهم أنه رأى بالعين المجرّدة سلطانة الصحافة الأمريكية المخلوعة قسراً السيّدة هيلين توماس، وهي القائلة: فليعودوا إلى ديارهم..

وقد نسأل: من هم؟ وأين تقع هذه الديار؟ أسئلة غامضة يصعب فكّها هنا، المهم، كلّها زلّة لسان أطاحت بعميدة الغرفة الصحافية التابعة للبيت الأبيض، كانت السيّدة هيلين توماس سلطانة بكل ما في الكلمة من معنى، فلقد اكتسحت عالماً كانت السيادة والسؤدد فيه للذكور وحدهم دون شريكات، حتى دخلت السيّدة توماس لتتناول كؤوساً من التوم-كولينز مع السيّد جاك كينيدي، ثم بعد انتقال الولاية لنائبه عرفت كيف تصدّ تحرّشاته الجنسية لها في المصعد، وبعده اشتهرت لمناطحتها للسيّد ريتشارد نيكسون، ثم جاء عدّة رؤساء آخرون فرمتهم السيّدة توماس بظفرها، إلى أن أتى الرئيس رونالد ريجين الضائع عقله فسرعان ما فكّت هراءه ودكّت خراءه لتنفذ إلى سرّ أسراره فقالت ناصحة لرفيقاتها ورفقائها في المهنة: يجب أن تلبسوا اللون الأحمر، إذا رغبتم في إجابة شافية من الريّس..

لكن قد انحرفنا قليلاً عن المسار، فلنرجع إلى ما قصدنا من كلام ..

في لسان المستشرقين وما ينقسم إليه من لغات ولهجات

فاعلموا يا سيدات وسادة أني وبعد أن قطعت أشواطاً في الطواف وبثّ النميمة إذ اجتاحني إحساسٌ عارم بالفضول وحبّ الاستطلاع، ورغم ما بذلتُ من قصارى جهدي إلا أنني لم استطع أن أكظم هذا الإحساس ولا أقاومه، إذ أنه شعور متأصّل عند المستشرقين يأتيهم فجأة مثل صلصلة الجرس، وصهيل الفرس، فيندفعون لا يردعهم رادع وفي قلوبهم زيغ وعلى أبصارهم غشاوة صمٌّ عميٌ بكمٌ فهم يعمهون! وعمهتُ في صالات الفندق بحثاً عن غرفة أدخلها علّني أشبع هذا الإحساس القوي الجبّار، وكدت أن أتوه فعلاً لولا ظهور رجل كريم يرتدي قبّعة فرنجية وصولجاناً نقشبندياً، عرّفني بنفسه قائلاً:

- أبو الفتح الإسكندري

فسلّمتُ عليه بحرارة إذ خيّل إليّ أني قد رأيته من قبل لكن في هيئة مختلفة نوعاً ما، المهمّ، قادني أبو الفتح إلى أقرب غرفة وجلسنا فيها مستمعين إلى كلام المحاضرين من المستشرقين. قال أحدهم:

فاعلموا يا سيداتي وسادتي أني عند زيارتي الأخيرة إلى ديارهم رأيتهم يعبدون عصفوراً أزرقاً [والأصحّ أزرقَ من غير تنوين، فالرجل يخطئ في الإعراب مثله مثل بقية زملائه في المهنة الاستشراقية] يسمّونه تويتر وهو في الأصل طائر الوروار كما قال لي الشيخ المحترم الذي رافقني أثناء تجوّلي في البلاد وأرشدني إلى مواقعهم الأثرية كما كشف لي عن وثائقهم التاريخية ثم عرّفني على عاداتهم في الجماع والوصال ونحو ذلك حتى بلغت مع هذا الشيخ ما لم ...

فقام أبو الفتح الاسكندري مقاطعاً حديثه بتصفيق هيستيري ساخر فهتف بأعلى صوته: برافو يا معلّم، برافو، برافو، ..

فاندلع هرج ومرج وتبلبلت الأفكار وعمّ الفوضى حتى احمرّ وجهي خجلاً من هجوم رفيقي ثم جذبني أبو الفتح من يدي وجرّني إلى خارج الغرفة لنلتقط شيئاً من الهدوء فقلتُ له:

- يا أبا الفتح! ...

إلا أنه لم يتركني أكمل تأنيبي له إذ أخذ بيدي مرّة أخرى ودخل بي إلى غرفة أخرى سمعنا فيها هذا الكلام:

وقال لي عمّو إدوارد صاحب كتاب الاستفشاخ ان كلّكو ولاد مفترية ومالكوش دعوة بنا يا ولاد الكلب يا اللي داخلين بين البصلة وقشرتها يا شباشب حمام يا بتوع المورستان يا اللي مش لاقيين حد يلمّكوا جرستونا يا ...

فقاطعه أبو الفتح بنفس التصفيق الهيستيري الساخر لكنه هذه المرّة جعل يوضّح للمتكلّم جميع أخطائه اللغوية فرفع له ما نصب وسكن له ما كسر ثم شدّد له ما لم يشدّد ونوّن له ما لم ينوّن، ولم يكتفِ بذلك بل انهال عليه بحروف الجرّ والفرّ ولم ينسَ أن يعبّئ له أفعاله الجوفاء..

أمّا أنا فقد تكوّرتُ مثل الجنين وغصتُ في مقعدي خجلاً من هذه الحملة التصحيحية، وقلت في نفسي: هو كده هيضيّعلي مستقبلي في المهنة!

وحين فرغ من إطلاق رصاصه اللغوي جذبني من ذيلي إلى خارج الغرفة فصِحتُ فيه:

- فضحتني يا ...

إلا أنه لم يكن ليسمع مني عتاباً فأمسك بيدي مرّة أخرى ودخل بي إلى غرفة ثالثة سمعنا فيها هذا الكلام:

فقضيتُ ساعتين في المكتبة المطلّة على البحر وأنا أنكبّ على بعض من مخطوطاتهم العثمانية المتعلّقة بقضايا البغاء والعهر، وبينما أنا كذلك إذ انتابتني نوبة من الإسهال فأسرعت إلى الحمّام لأقضي حاجتي لكني وجدته مكتظاً بعدد من الرجال الذين يشبهونني إلى حدّ كبير، حتى أدركت أنني في غرفة متعددة الجدران الزجاجية وما هؤلاء الرجال إلا نتيجة الانعكاسات الضوئية لصورتي أنا التي بدأت تتفكّك وتنهار..

وعند هبوط الكلام إلى هذا المهبط توقّعتُ أن أسمع من رفيقي تصفيقه الهيستيري الساخر الذي يليه سيل من السب والقذف الصائبين، إلا أني فوجئتُ باستمرار المتكلّم في محاضرته ليهبط هبوطاً ما بعده هبوط، فالتفتّ يمنة ويسرة ولم أجد أبا الفتح، الظاهر أنه قد اختفى، مثله مثل فص الملح الذي ذاب، ليتركني في هذا المهبط مع الهابطين، وذلك لسبب لا يدركه سواه..

فساورني اليأس، وتملّكني القنوط، فجعلتُ أجمع في ذهني جميع ما مرّ بي من مشاهد وأحداث، محاولة مني لربط المفكوك، ولمّ المبعثر .. وهاتان العمليتان لا أجيدهما في العادة، فكلّ ما أعرفه هو ضرب الرمل، والنفث في العقد.. إلا أنني بعد فترة وجيزة من الشرود عدتُ وتذكّرتُ أني قد رأيته من قبل فعلاً، هذا المسمّى أبو الفتح الإسكندري، نعم أتذكّر الآن أنني قابلته في المطار، وعلى الكورنيش عند الطوار.. نعم لقد قابلته في الطابور، ولقد رأيته في السوق في دمنهور.. وبعد ذلك وجدته في هذا الفندق، بعد مصادفتي له في ساحة البندق.. فهو ذاك الإنسان الذي يظهر لي من وسط الحشد، يتجلّى بغتة وكأن من لا شيء، فيقبل علي هاشّاً باشّاً لنتعارف كلّ مرّة لأوّل مرّة، ويزرع رنيناً في مسامع الروح، ونحصد جميعاً فواكه الصدى ...

وأراكم الآن قد وقفتم على حاضر المستشرقين وسرّ فشاختهم.


تمّت.