17 فبراير 2011

رسالة في الهزل والجدّ والطرق الشعرية

رسالة في الهزل والجدّ والطرق الشعرية

يعتدّ حازم القرطاجني من أعزّ أبناء تونس الخضراء، شارك في ثورتها وانضمّ الى صفوف ياسمينها المتوهّجة، كما أنه هجا رؤساء النظام الفاسد المطاح به، ثم توفّاه ربّه سنة 1285 م / 684 ه. وقد خرج من رحم أمّه لتسقط رأسه على أرض الأندلس، وفي مدينة قرطاجنّة تحديداً، فلُقّب بذلك، ولكنه ولسوء الحظّ ألفى نفسه محاصراً من قبل الجيوش الكاثوليكية المتعطّشة لدماء اليهود والمسلمين، والكفّار أيضاً، مما أقنعه أن الهروب والاغتراب قد لا يضرّه كثيراً، إنما بالعكس فقد ينفعه نفعاً لا بأس به، لذا فقام أخذ ذيله في سنانه وطار الى تونس، المعروفة منذ الأزل بمدينة قرطاج. وذلك حوالي سنة 1239 أو 1240 الميلادية.

ولقد انشغل القرطاجني لفترة طويلة بأمور الشعر، وقام بتأليف ديوان أو ديوانين من المدح والردح والهجاء والرثاء، فلم يصرفه عن هذا الاهتمام الشعري التافه إلا مشروعه المعرفي الميتافيزيقي الأعظم، الذي أفنى ثلث أرباع عمره في تصحيحه وتنقيحه والانكباب عليه ليل نهار، زهد في الحياة الدنيا من أجل إخراج هذه الثمرة الفلسفية المعجزة، وفرّط في نصيبه من الزينة والملذات حتى أنه اعتزل كوخاً في الجبل لا ينزل منه سوى في أيام محدّدة من موسم الشتاء، وفي أواخر شهر أرخ شباطو البابلي بالتحديد، وذلك من أجل التقاط بضعة وريقات من شجرة الطلح المتساقطة على الأرض وهي قوته الوحيد، غذاؤه الفريد وهو سبب قول القائل:

ما أجوع من القرطاجني"

وقالوا أيضا:

ما أطلح من القرطاجني" نسبةً الى شجرة الطلح التي اعتاش منها والله أعلم..

ولا أطول عليكم، المهمّ أنه في عزلته هذه انهمك في تصميم نظام متكامل في تصنيف الأشياء وترتيب السفهاء، فوُلّع بالخطوط الرفيعة، المستطيلة المتشابكة، كما أنه شُغف بفكرة الفروع والخانات والدوائر والمصفوفات، ثم خرج عن طوقه وجنّ جنونه فقضى آخر أيامه يهذي ويخرّف لا ينطق سوى: فعلن مفعول مفعلن تفعلن فاعول فعلنة ..

وبعد وفاته بخمسين عام، اقتحم الناس كوخه بفضولهم وتم العثور على مخطوط بعنوان: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ينقسم الى أربعة أجزاء تتبقى منها الثلاثة الأخيرة بينما ضاع الأوّل للأسف الشديد. لكن ما يهمّنا هنا – وقد حانت منا التفاتة الى الظروف الراهنة في برّ مصر وبحرها – هو عدّة صفحات من القسم الرابع " في الطرق الشعرية " فيقول:

الطرق الشعرية، وقد نقول الطرق المعرفية، غير أننا لا نستسيغ ذلك فهو لا يروق لنا لذا سنبقى على مصطلح القرطاجني المعهود، والذي ذرف من أجله سيول من الدم المالح، والدمع الكالح ، المغذّى جيدا بوريقات الطلح، وقيل الزنزلخت، المتساقطة هنا وهناك..

وقد نقول "الطرق المعرفية" لأن كلامنا هنا لا يقتصر على الشعر والأدب بل يمتدّ الى الكتابة والخطابة بشكل عام. و“الطريقة المعرفية" هي تلك العلاقة بين المتكلّم وكلامه، وهذه العلاقة – بالطبع – قد تكون مباشرة وواضحة وناتجة عن نية وقصد، كما أنها – بالطبع أيضاً - قد تكون غير مباشرة، وغامضة، وتتذبذب ذبذبة لا حدّها لها ولا حصر. لكنا نعلم جيدا أن هذا المنهج يكبّر دور المتكلم ويضخّمه، والأفضل لنا أن نقول: الطرق الشعرية، وهي العلاقة بين المتكلّم والمخاطب والكلام وأشياء أخرى من نوع: وريقات الطلح. والكوخ في الجبل. والحبر الأحمر. والغازات المسيّلة للدموع.

كل هذه العوامل، حدث لها أن تتلاقى وتتفاعل في الخامس والعشرين من يناير، الموافق لـ21 صفر الهجري، الموافق لأرخ طبيتوم البالبي، الخ، وهي من ذلك النوع من العناصر التي من شأنها أن ترجّح كفة الثقل على كفّة الخفّة، أو كفة الخفّة على كفة الثقل، فتعرّج بنا عن طريق الجد الى طريق الهزل، أو بالعكس، من طريق الهزل الى طريق الجد، وإنّ البحث في هذه الأمور هو مقصدنا اليوم.

وقالوا البعض: إننا نذهب مذهب الجدّ، فإن بهذه الثورة نكافح من أجل أشياء جادّة، وملموسة. وهؤلاء لهم حقّ.

وقالوا أيضاً: بل إننا نذهب مذهب الهزل، علشان الراجل دا بيقول: مش همشي، مش همشي، مش همشي، خلاص أروح شرم الشيخ! وهؤلاء لهم حق أيضاً.

فأي هزل هذا، وأي جد. لكن: هل يحقّ لنا أن نحدّد، هل يحقّ لنا أن نميّز بين الاثنين؟

والحقّ يقال أنني أتأمّل هذه الثنائية الصارمة منذ الأبد، فهي دون غيرها من الثنائيات تتحكم في علاقتي بغيري من البشر: لغوياً واجتماعياً وفنياً. وأخولوتياً . لكن الموضوع ليس شخصياً فحسب، إنما هو - كما أوضح لنا الشيخ أبو الحسن حازم القرطاجني - على صلة وثيقة بالظواهر الكونية الكبرى، والأحداث اليومية الصغرى، وما بينهما طازج.. (وهل أوضح ذلك فعلا؟ ربما، المهم أننا ننسب اليه هذه الأقوال الرصينة، والأفعال الرخيمة، لغرض من أغراض الشدّ، والصبغ).

فكيف اذا مزج أحدهم بين الاثنين - الهزل والجد؟ قال:

ويقصد الإشارة الى حشي الدالّات الجدّية بمدلولات هزلية لإتّفاق تداخلهما في بعضهما البعض. والبيض هنا - بالطبع - هو بمثابة البضان، بينما الذكور - وهي السيوف في القصائد الكلاسيكية المغبّشة - تميل الى السيجارة بشكل ملحوظ، وإن كان التبغ غير معروفاً أيامها، لسوء الحظ.

* * *

كثيراً ما يقال في نقاط التحوّل التاريخية: سبحان الله مغيّر الأحوال، ولن تعود الأمور كما كانت من قبل، فكأننا شهدنا لحظة مفصلية، ومفترق طرق، خرجنا من تلك الطريق القديمة الى هذه الطريق الجديدة: والله الموفّق والمستعان. ثم يشرعون في إقامة العزاء لروح السخرية، ويقولون: إنه موت الهزل، لكثرة ما عشناه من مخلّفات الجدّ.

يندلع صراع بين الطرق المختلفة، ومن أبرز أطرافه: قانون الطوارئ. وتحدّي الملل. وكفاية. والتجديد الكويس والتجديد الوحش. وقول بعض السفهاء: لقد عادت المياه الى مجاريها. ولقد بدأت الحياة العادية تعود الى الشوارع. ولقد ولقد ولقد..

فأي عذاب هذا، أن تعيش في حالة من الطوارئ العاجلة من جهة، وبين حالة من الملل المتأصل، الناتج عن الراجل اللي مش هيموت أبدا على ما يبدو، من جهة أخرى.. الحق أني لا أعرف، لكني مع ذلك أثرثر، وأفتي، وأدلي بدلوي لأن هي دي لعبة الموسم، فلم لأ؟

***

" الروتين " له رنّة معيّنة، له رائحة خاصة به وله حركات تُمنع وأخرى تباح، نحن نحسّ الطريق الشعري من خلال السمع، ونحسّه أيضا عن طريق الوزن وجبس النبض، وتكسر البلاط وإعادة تعبيده، ثم لا ننسَ جملة الكيميائيات المنصبّة فينا، حليب المعزة والزنجبيل والخشب المطحون، وأذكر بهذه المناسبة أني قد أقلعت عن شرب القهوة منذ شهر كامل، ولا أشرب الآن غير الشاي ومن أوهمك بغير ذلك فإنه واهم واهم واهم!


هناك تعليق واحد:

  1. يا اهلا وسهلا يا مايكل

    نوّرت المدوّنة، وشكرا لمتابعتكم

    يمكن مراسلتي عبر الإيميل التالي

    bwkoerbe [at] gmail [dot] com

    ردحذف