26 فبراير 2011

قوت القلوب والصوت العابر للحدود

قوت القلوب والصوت العابر للحدود

يقطع نهر الريو جرانديه القارة الأمريكية قطعاً، فهو لسان رطب طويل ينسال ريقه فيتدفق الى حوض خليج المكسيك، يركض مندفعا حيناً ويرتدّ منسحباً حيناً آخر، يكرّ ويفرّ، يفرز سوائله البهية فتسقط تارة في قاع الحوض، وتسقط تارة أخرى في الممرّ المظلم المؤدّي الى الحلقوم والبلعوم وغيرهما.. مختصر القول انه نهر لا يستمدّ قوّته من مجراه الطبيعي، بقدر ما يستمدّها من تدخّل الأيادي الغادرة من أنصار الترسيم والتحديد، وعمليات بيع وشرا واستيلاء صريح، وتصارع البشر وانفصالهم عن بعضهم البعض حسب اتفاقات اللون والعرق واللغة والمال، أضف الى ذلك تلهّف بعضهم على موادّ غريبة مثل الحديد والخرسانة والنفط والزئبق، نعم الزئبق، ثم خضوع قطعان من البهائم أو إخضاعها، البقر والمعز والمدرّع البرّي، .. يجب ألا ننسى شيئاً من هذا، فهو كلّه يصبّ في ذاك النهر الكبير، الفاصل بين الولايات المتحدة من جهة، وبين المكسيك من جهة أخرى..

همسة

ليس قصدنا هنا، حاشا لله، أن نرسم صورة رومانطيقية، تمجّد ما يسمّى بالطبيعة وتفضّلها على ما يسمّى بالصناعة والفعل البشري، بالعكس فما يهمّنا اليوم هو توافق الأشياء كما هي، وكما يمكنها أن تكون، والبحث واللعب في طواياها المتشابكة وأعكانها المتلاحمة*، وذلك من دون إصدار أحكام أو تقييم إنسان، فهذا أمر مرفوض تمام التمام. فهذا شعارنا اليوم، شئنا أم أبينا.

وادي الريو جرانديه، ووادي الذئب. الأول أمره معروف، وهو قطاع متذبذب من الأراضي الممتدّة حتى الأفق. ولمّا كان هذا الوادي الأول قد تم تقسيمه وترسيمه، فلقد خضع الثاني – وادي الذئب – الى عملية تحريف بشعة جرى مفعولها على الوادي الأول أيضا. ذلك أن القارة الأمريكية وفي منتصف القرن التاسع عشر شهدت حرباً ضروساً بين الامبراطورية الشمالية الوليدة، وبين امبراطورية سانتا آنا المكسيكية، الوليدة هي الأخرى، والتي تم وأدها في المهد جرّاء سلسلة من المعارك الدامية خلّفت من القتلى والجرحى ما لا يعدّ ولا يحصى. وبالطبع فقد انتصر الجيش الشمالي الأكبر في توغّله الأول هذا في الأراضي المكسيكية، وبالتالي فلقد راق لهم وهم الفائزون أن يفرضوا سلماً يثبت غطرسة الروح الاستعمارية وعنجهيتها، الأمر الذي تحقّق من خلال إبرام معاهدة جوادالوبيه (عام 1848) التي يعدّ من بنودها تحديد نهر الريو جارنديه حداً رسمياً بين المكسيك من جهة، وبين ولاية تكساس الوليدة من جهة أخرى. هكذا فلقد وشمت معاهدة جوادالوبيه – وهي كلمة مركّبة محرّفة من الاسم العربي "وادي الــ" والكلمة اللاتينية الأصل "لوبيه" أي ذئب، فهي وادي الذئب – وشمت وادي الريو جرانديه بوشمات جغرافية-سياسية بيّنة لا يشكّ فيها كائن ما كان..

حرف

ولعلمكم فإن جوادالوبيه – هذا اللفظ الممجوج الهجين – هو اسم أُطلق أيضاً على الشارع الذي أجلس فيه حالياً في أوستن. إلا أن سكان هذه المدينة – الممجوجين هم الأخر – سلكوا مسلكاً شاذاً فاعتادوا أن ينطقوه "جوادالوب" أي بإسقاط التشكيل الإسباني من آخر الكلمة، وهي عادة اتبعوها أيضاً لدى نطقهم اسم الريو جراديه حيث توافقوا على أن يحرّفوه الى "ريو جراند" بحذف آخر حروفه. لكن.. ليس قصدنا هنا – حاشا لله – أن نسجد لصنم اسمه الأصالة، بالعكس فما الأصل إلا بدعة من آخر الزمن، ورجس من عمل الهمج والمنافقين..

ورغم استيطان شعوب كثيرة لهذا الوادي منذ فجر التاريخ وما قبله – ومنهم من نسمّيهم اليوم السكان الأصليين للأمريكتين – فلقد وسوس الشيطان لملوك إسبانيا الكاثولوكية، في أعقاب حملتهم الطويلة ضد اليهود والمسلمين، وسوس لهم أن ما حدث في 1492 لم يكفي، فأخذوا في الترهيب والتعذيب لمن قيل إنهم كفار، واستمرّوا في ذلك على مدى القرون التالية. واللي اتقتل، واللي اتدبح، واللي خد ديله في سنانه وطار الى بلاد برّه..

هكذا فبسبب صوت الشيطان لقد اضطرّت أسرة باريديس – وهم أسرة يهودية الأصل اعتنقوا المسيحية فيما بعد – الى الهجرة الى أراضي المكسيك النائية في أواخر القرن السادس عشر. واتّجهت هذه الأسرة ومعها أسر مختلفة من "المسيحين الجدد" الى شمال هذه البلاد المفتوحة، حتى وصل بهم الترحال الى عبور نهر الريو جرانديه العظيم، فنزلت طوائف منهم في أقصى شمال ولاية نويفو سانتاندر المكسيكية آنذاك. ومرّت السنين واندلعت الحروب، حتى وجدت أسرة باريديس نفسها منقسمة بين تكساس من ناحية الشمال والمكسيك من ناحية الجنوب نتيجة لمعاهدة وادي الذئب، المتقمّص جلد الخروف المذبوح. فانظروا الى هذا البلاء، واسمعوا هذا الرثاء يا أهل التقي والوفاء..

.نهنهة عابرة

دموع كثيرة ذُرفت على هذا الانشقاق، نحيب طويل يُسمع صداه حتى هذه الساعة، بيد أن مدينتين شقيقتين ظلّتا تتواصل وتتراسل رغم حدّة القهر وشدّة النهر، سمّيت الشقيقة الشمالية مدينة براونزفيل، الواقعة في أرض تكساس، أما الشقيقة الجنوبية فهي مدينة ماتاموروس الواقعة في أرض المكسيك. ولعلّكم تسألون، يعني ايه ماتاموروس، وما قصة اشتقاقها وكيف حصل انبثاقها، ذلك ان كانت انبثقت أصلا، فاعرفوا أيها الأصدقاء أن اسم ماتاموروس إنما هو مركّب من كلمتين اسبانيتين، الأولى "ماتا" بمعنى "قتل/يقتل/قاتلٌ" أما الثانية فهي "موروس" بمعنى سكّان الأندلس المسلمين، فيكون المعنى المركّب لهذا الاسم: "شخص يُشتهر لقتله الكثير من المسلمين". وإن كان هذا المعنى قد نسي منذ سنين طويلة، فما دهاك أيها النسيان!

أما المدينة التكساسية – المدعوة براونزفيل – فازدهرت ازدهاراً باهراً نظراً لانتماءها الى دولة النجمة الواحدة، المتمتّعة بقوة اقتصادية جبّارة استقطبت العديد من أهل الجنوب ولا تزال. وفي الثالث من سبتمبر سنة 1915، في يوم وفّق بين برج العذراء وبين قمر من أقمار كوكب الزهرة، وُلد في مدينة براونزفيل طفل رضيع اسمه أميريكو باريديس، وهو ابن بارّ للأسرة المذكورة ونجمة من نجومها الصاعدة بعد طول الهبوط والأفول. كُتب لأميريكو أن تُزرع فيه بذرة التطلّع والفضول، وقُدّر لهذه البذرة أن تبنت لها عدّة فروع وسويقات، تشعّبت وتطوّرت، امتدّت واندفعت حتى تلاقحت مع التصفيقات والتهلّلات المصاحبة لجلسات المواويل المكسيكية، المعروفة بالـ"كورّيدو".

هكذا فلقد ترعرع أميريكو باريديس الصغير وهو يصغي بتركيز مغذّى بالولع الى هذه الأغاني الشعبية، التي دارت أحداثها حول بطل من أبطال الشعب المكسيكي، المتمسّك بطبنجته كما بحقّه، والذي تصدّى لهجومات العصابات الشمالية المصمّمة على طرد اللاتينيين من أرض تكساس المفتوحة. وكبر الطفل وتحوّل الى مراهق، والمراهق الى شاب أصبح له برنامجه الخاص على الراديو – تلك البدعة من بدع آخر الزمن – أدّى من منبره تنويعاته الخاصة على الكورّيدو العتيق، الجاري عبر تردّدات صوتية وتواترات إذاعية أسبغت على حنجرته بل وشخصيته أبعاد جديدة لم تخطر على أحد ببال..

.نحنحة معبّرة

جرّبنا أشكال عديدة من الفنّ، الكتابة والقراءة والخطابة والبغددة، والرسم والوشم والخلبصة في الفوتوشوب. كما أننا أقبلنا على الشتم والشعر والغوص والرقص، ومارسنا أنواعا من الفرفشة والهلوسة والهبوط والتنطّط. جمعنا الأزهار، وزرعنا السفرجل. لكن الغناء، وحده الغناء، لم نعرفه بعد..

ولأن برج العذارء – وخلاف ما يشاع عنه – يتمتّع بخصوبة ما بعدها خصوبة، فلقد حدث له أن يبعث في رحم إمرأة أخرى في مدينة براونزفيل أعجوبة موسيقية أخرى، وذلك في الخامس والعشرين من أغسطس سنة 1922. هكذا جاءت الى عالمنا الطفلة الرضيعة، المغنّية البديعة كونسويلو سيلفا، ولقّبوها فيما بعد بـ"تشيلو". ولا يخفى عنكم يا سيّداتي وسادتي أن "تشيلو" هذه تعلّق قلبها بشاب اسمه أميريكو باريديس، كما تعلّق قلبه بها أيضاً، فقرأوا الفاتحة وتزوّجا سنة 1939، وهي نفس السنة التي اتجوّزت فيها الأميرة فوزية للشاه الايراني محمّد رضى بهلوي.

ثم اعلموا يا سيداتي وسادتي أن الشاب أميريكو لما كان تولّهه بزوجته لا يفوقه سوى تولّهه بالمواويل والإذاعة، ولما كان تولّه تشيلو بزوجها لا يفوقه سوى تولّهها بالغناء والرقص، فكان من الطبيعي أن يتعاون الاثنان في الفنّ كما تعاونا في الحبّ، وسرعان ما انضمّت حنجرة تشيلو برئتيها الاثنتين الى برنامج أميريكو على الراديو – تلك البدعة من بدع آخر الزمن.

.آهة معتبرة

وصفها أحدهم ذات يوم اذ قال:

" صوت بلا جنس والاثنان معاً. كلام أغانيها في مذكّر يتضمّن التأنيث، ولقبها الستّ. الستّ فقط كأنه توكيد لما ليس مؤكّداً، ليس بدهياً. للقطع والهروب من الحيرة...

زمن صوتها هو أيضاً ملتبس بين أنوثة الأرستقراطية الذاهبة وذكورة بدايات التحرير، بين الكهولة والمراهقة. وبيولوجيا صوتها خلط وندف لانتظام الهورمونات وانفصالها بين الشارع العام ومشربيّات الحريم الظليلة بالياسمين، بين شمس الزمالك المكتظّة وارتعاشات الأبخرة الطريّة في الحمامات التركية. بين برادة المعادن المحترقة وشراراتها وبرودة الحليب الذي يحمض وئيداً في الدفء. صوت إمرأة ورجل معاً. ألا يقولون انها كانت سحاقيّة " (92-93)

هكذا كتبت الروائية اللبنانية الكبيرة هدى بركات في روايتها أهل الهوى وهي تمعن في وصف كوكب الشرق، أم كلثوم. إلا أننا قد لا نخطئ في القول انه وصف ينطبق انطباقاً دقيقاً على المغنّية التكساسية-المكسيكية تشيلو سيلفا، التي كتب عنها الأستاذ رامون سالديفر فقال:

ولما شبّهها البعض بالمغنيّة السويدية-الأمريكية جريتا جاربو من حيث رخامة الصوت، فقد لا نخطئ في تشبيهها بجريتا جاربو من ناحية أخرى، وهي قدرتها على تجاوز الحدود الخيالية بين الشهوة الذكورية والشهوة الأنوثية، وهو تجاوز تردّد حوله العديد من الشائعات...” (48)

ولا يخفى عنكم أيضاً يا أهل الثقة والاستماع، أن الستّ تشيلو ما ان انضمّت الى برنامج أميريكو حتى فرّت به الى المكسيك، وذلك هروباً من تشدّد قوانين الإذاعة الأمريكية وتضييقها عليهما، فعبرا نهر الريو جرانديه واشتغلا لعدة سنوات في محطّة من محطّات "راديو الحدود" الشهيرة بتجاوزاتها وانفلاتاتها، بفضائحها وروائحها، وذلك لما ضمّتْه من أصناف المرقة والسحرة والمجانين المرتزقة، وغير المرتزقة.. فاخترق أميريكو ومعه تشيلو الحدود الفاصلة بين الولايات المتحدة من جهة، وبين المكسيك من جهة أخرى.

وأسمعكم تتساءلون: وكيف ذلك؟ فأقول لكم إن سرّ ذلك يكمن بكل تأكيد في حكاية جمعت بين أطراف عدّة من أهمّها: أسلاك الكهرباء وأجهزة البثّ والتلقّي.. تقاليع الجلوس والاستماع الأمريكية.. مساحات جغرافية واسعة وتخطيطها السياسي.. احتكار حكومة الشماليين لكل تردّدات البثّ الإذاعي.. ثم أخيراً وليس آخراً، طبيب مزيّف اسمه جون برينكلي، ابتكر عملية جراحية فذّة هي عبارة عن زرع خُصَى المعز في أصفان الرجال المعانين من العجز الجنسي! والحكاية باختصار شديد ان هذا "الطبيب" – وهو مواطن أمريكي بالطبع – اشتهر لإتقانه هذه العملية المنحرفة التي أدرّت عليه أرباح فاحشة تعدّ بملايين الدولارات، نظراً لاحتياج عدد كبير من أغنياء الشمال الى علاج سريع لما يقاسونه من أعراض الضعف مع المدام. ويغنى عن البيان ان هذه العمليات، لسوء الحظ، لم تؤتِ ثمارها المنشودة، بل انها شوّهت العشرات وخلّفت عدداً من القتلى والجرحى.. إلا أن الطبيب الفرانكانشتيني تمكّن من مواصلة بثّ إعلاناته الطبّية الخاصة من محطّة إذاعية تقع على الضفة الجنوبية، وهي محطّة نفخها بأمواله الطائلة، ونجحت في الانفلات من قبضة الحكومة الشمالية، فهي تقبع في ربوع المنطقة الحدودية إياها، السائدة فيها الحرية والفوضى والبلبلة والإذاعة!

هكذا فلقد وجد أميريكو وتشيلو في هذه الأرض منأى عن الأذى، ومُتَعَزَّلاً لِمَنْ خَافَ القِلَى.. فأنشآ برنامجهما من جديد في هذه المحطّة المارقة، السادرة في غيّها، وكان مُسْتَوْدِعُ السِّر ذائعاً لديها. وجدا فيها مضخّةً للأخبار الكاذبة والأراجيف الفاسدة، ومنبراً لأجناس موسيقية جديدة من إبداع طليعة المطربين والمغنين، الجنوبيين منهم والشماليين. في هذا المعمل المبني من قطع الغيار وأسياخ من الحديد الصدئ، في هذا المطبخ المنزوع السقف، في هذا البيت في الوادي، حدث ما حدث. تشيلو وأميريكو، أمريكيوا وتيشلو.

نعم فقد ذاع أمرهما نتيجة لهذه العملية الخارقة العجيبة، المتركّبة من الأوراق القانونية الممزّقة، والمعاهدات السياسية المبرمة، والخردوات التكنولوجية المستعارة، والقدرات الرئوية الجبّارة، وأعضاء البهائم المستثارة.. واذا بابن اليهود المطرودين من الأندلس، ومعه بنت اسمها سيلفا – أم هل هي سلوى؟ - يغنّيان ويفرحان بهذا الصوت العابر للحدود. هو صوت أشبه ما يكون الى صوت أم كلثوم، شبّهه رامون سالديفر بأصوات جريتا جاربو، وإديت بياف، ولورا بيلتران.. صوت تحمله موجات الراديو الوليد، التي تختلط فيها إثارة التكنولوجيا الجديدة بنقرات الغلوشة والتشويش المتوقّعة، لتشتهر فيها تأوّهات الخنثى المعبّرة عن نشوة وعناد..

.أحّة

لكن ما كُتب للأحوال أن تستمرّ على هذا المنوال.. اذ أن الأقدار سخرت من هذه التجربة، فعبثت بقلوب العاشقين وزرعت الفتنة والضغائن بين الطرفين. وما ان طلعت الشمس على العام الجديد 1947 حتى انتهت علاقة تشيلو وأميريكو وكانت القطيعة. وانشقّت الأرض وابتلعت من البشر ما يروي عطشها ولو الى حين، ثم قام الكيان الصهيوني بعد ذلك بقليل، أيْ دولة النجمة الواحدة مثلها مثل تكساس، مما أسفر عن عمليات ترسيم وتخطيط وتهجير وترهيب. ومرّت السنين وجاء التلفزيون، مغرزاً أنيابه الحادّة في ما تبقّى من جثّة الراديو وأصواته الأصيلة تارة، والهجينة تارة أخرى.

فقد ذهب كل واحد الى حال سبيله، اذ سافر أميريكو الى اليابان وبعده الى مدينة أوستن حيث أصبح أستاذاً أسطورياً في قسم علم الإنسان والدراسات الفولكلورية. أما تشيلو فلقد أفلت نجمتها لفترة قصيرة ثم عادت بصمودها ولذعتها المنتعشة وهي تؤدّي أغاني حادّة مثل: أرجل منك " و "مثل الكلب " وغيرها، حتى توفاها الله في أواخر الثمانينات. ورغم ذلك كله فلقد بقي السؤال يرنّ في آذان المستمعين: هل لمثل هذه التجربة ان تتكرّر؟ هل لهذه الروح أن تعود، هذا الصوت العابر للحدود؟

علم ذلك عند الله، فضلاً عن بعض المنجّمين وعدد من الذين عملوا في محطّات الحدود، لكننا هنا في الفضاء الافتراضي قد يروق لنا أن نخمّن، وأن نطوّر قدرات الرؤية والتبصير. فليكن. دعونا نجرّب حظّنا اذن في فنون التطلّع والتفسير، في قراءة وريقات الشاي وشجرتي الطلح والبلّوط، ولننعطف على بعض الصدف والاتفاقات الواضحة تارة، وغير الواضحة تارة أخرى. فليس من المستغرب هنا أن يسأل بعضكم عن سعيدة سلطانة، المعروفة بدانا انترناشونال، وهي القائلة:

خدني للموناكو

خدني للمكسيك

جبلي بتاكسي

آيم فيلينج سكسي

دانا انترناشونال

و ما هذا إلا ضرب من الكفر والانحلال من شأنه أن يفسد شباب مصر، الأمر الذي نرفضه رفضاً مطلقاً. صحيح ان قصتها مثيرة بعض الشيء، تبدأ بعملية تحويلها الجنسي الى غزوها أسواق الكاسيت القاهرية – كما يروي لنا المستعرب تيد سويدنبرغ في مقالته الفشيخة – وتضمّ أيضاً ما رُوّج عن اختراقها – حرفيا وجسديا وشخصيا – الحدود المصرية-الاسرائيلية في رحلة سرّية للغاية قامت بها الى الأهرام ذات ليلة ليلاء. لكن.. ألا يلحّ علينا احتمال آخر؟ ألا يوشوش في آذاننا صوت جديد، يليق بهذه الأيام الثورية التي تصنعها البلاد العربية، من المحيط الى الخليج؟ أين الوريث الحقيقي، السلالة المستحقّة لما قامت به كل من تشيلو سيلفا وأمّ كلثوم وإديت بياف ودانا انترناشونال؟

الاختيار لكم أيها الأحباء، ولنترككم اليوم مع الكلمات التالية:

آني لا يودعت ما خوشبيم آخريم.. لو خشوب لي ما أومريم!

---

ونحبّ نعلّمكم رسمياً أننا منذ البوست السابق، ورغم إصرارنا على تجنّب القهوة بسمومها المفلترة، إلا أننا اليوم السادس والعشرين من فبراير قد أفطرنا على فنجان ريّق من ذاك السائل الأسود الدسم، فأي هزل هذا، وأي جدّ؟


------

* أعكان، والواحدة عُكْنة: ما انطوى وتثنّى من لحم البطن، والمقصود هنا: من لحم اللسان

17 فبراير 2011

رسالة في الهزل والجدّ والطرق الشعرية

رسالة في الهزل والجدّ والطرق الشعرية

يعتدّ حازم القرطاجني من أعزّ أبناء تونس الخضراء، شارك في ثورتها وانضمّ الى صفوف ياسمينها المتوهّجة، كما أنه هجا رؤساء النظام الفاسد المطاح به، ثم توفّاه ربّه سنة 1285 م / 684 ه. وقد خرج من رحم أمّه لتسقط رأسه على أرض الأندلس، وفي مدينة قرطاجنّة تحديداً، فلُقّب بذلك، ولكنه ولسوء الحظّ ألفى نفسه محاصراً من قبل الجيوش الكاثوليكية المتعطّشة لدماء اليهود والمسلمين، والكفّار أيضاً، مما أقنعه أن الهروب والاغتراب قد لا يضرّه كثيراً، إنما بالعكس فقد ينفعه نفعاً لا بأس به، لذا فقام أخذ ذيله في سنانه وطار الى تونس، المعروفة منذ الأزل بمدينة قرطاج. وذلك حوالي سنة 1239 أو 1240 الميلادية.

ولقد انشغل القرطاجني لفترة طويلة بأمور الشعر، وقام بتأليف ديوان أو ديوانين من المدح والردح والهجاء والرثاء، فلم يصرفه عن هذا الاهتمام الشعري التافه إلا مشروعه المعرفي الميتافيزيقي الأعظم، الذي أفنى ثلث أرباع عمره في تصحيحه وتنقيحه والانكباب عليه ليل نهار، زهد في الحياة الدنيا من أجل إخراج هذه الثمرة الفلسفية المعجزة، وفرّط في نصيبه من الزينة والملذات حتى أنه اعتزل كوخاً في الجبل لا ينزل منه سوى في أيام محدّدة من موسم الشتاء، وفي أواخر شهر أرخ شباطو البابلي بالتحديد، وذلك من أجل التقاط بضعة وريقات من شجرة الطلح المتساقطة على الأرض وهي قوته الوحيد، غذاؤه الفريد وهو سبب قول القائل:

ما أجوع من القرطاجني"

وقالوا أيضا:

ما أطلح من القرطاجني" نسبةً الى شجرة الطلح التي اعتاش منها والله أعلم..

ولا أطول عليكم، المهمّ أنه في عزلته هذه انهمك في تصميم نظام متكامل في تصنيف الأشياء وترتيب السفهاء، فوُلّع بالخطوط الرفيعة، المستطيلة المتشابكة، كما أنه شُغف بفكرة الفروع والخانات والدوائر والمصفوفات، ثم خرج عن طوقه وجنّ جنونه فقضى آخر أيامه يهذي ويخرّف لا ينطق سوى: فعلن مفعول مفعلن تفعلن فاعول فعلنة ..

وبعد وفاته بخمسين عام، اقتحم الناس كوخه بفضولهم وتم العثور على مخطوط بعنوان: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ينقسم الى أربعة أجزاء تتبقى منها الثلاثة الأخيرة بينما ضاع الأوّل للأسف الشديد. لكن ما يهمّنا هنا – وقد حانت منا التفاتة الى الظروف الراهنة في برّ مصر وبحرها – هو عدّة صفحات من القسم الرابع " في الطرق الشعرية " فيقول:

الطرق الشعرية، وقد نقول الطرق المعرفية، غير أننا لا نستسيغ ذلك فهو لا يروق لنا لذا سنبقى على مصطلح القرطاجني المعهود، والذي ذرف من أجله سيول من الدم المالح، والدمع الكالح ، المغذّى جيدا بوريقات الطلح، وقيل الزنزلخت، المتساقطة هنا وهناك..

وقد نقول "الطرق المعرفية" لأن كلامنا هنا لا يقتصر على الشعر والأدب بل يمتدّ الى الكتابة والخطابة بشكل عام. و“الطريقة المعرفية" هي تلك العلاقة بين المتكلّم وكلامه، وهذه العلاقة – بالطبع – قد تكون مباشرة وواضحة وناتجة عن نية وقصد، كما أنها – بالطبع أيضاً - قد تكون غير مباشرة، وغامضة، وتتذبذب ذبذبة لا حدّها لها ولا حصر. لكنا نعلم جيدا أن هذا المنهج يكبّر دور المتكلم ويضخّمه، والأفضل لنا أن نقول: الطرق الشعرية، وهي العلاقة بين المتكلّم والمخاطب والكلام وأشياء أخرى من نوع: وريقات الطلح. والكوخ في الجبل. والحبر الأحمر. والغازات المسيّلة للدموع.

كل هذه العوامل، حدث لها أن تتلاقى وتتفاعل في الخامس والعشرين من يناير، الموافق لـ21 صفر الهجري، الموافق لأرخ طبيتوم البالبي، الخ، وهي من ذلك النوع من العناصر التي من شأنها أن ترجّح كفة الثقل على كفّة الخفّة، أو كفة الخفّة على كفة الثقل، فتعرّج بنا عن طريق الجد الى طريق الهزل، أو بالعكس، من طريق الهزل الى طريق الجد، وإنّ البحث في هذه الأمور هو مقصدنا اليوم.

وقالوا البعض: إننا نذهب مذهب الجدّ، فإن بهذه الثورة نكافح من أجل أشياء جادّة، وملموسة. وهؤلاء لهم حقّ.

وقالوا أيضاً: بل إننا نذهب مذهب الهزل، علشان الراجل دا بيقول: مش همشي، مش همشي، مش همشي، خلاص أروح شرم الشيخ! وهؤلاء لهم حق أيضاً.

فأي هزل هذا، وأي جد. لكن: هل يحقّ لنا أن نحدّد، هل يحقّ لنا أن نميّز بين الاثنين؟

والحقّ يقال أنني أتأمّل هذه الثنائية الصارمة منذ الأبد، فهي دون غيرها من الثنائيات تتحكم في علاقتي بغيري من البشر: لغوياً واجتماعياً وفنياً. وأخولوتياً . لكن الموضوع ليس شخصياً فحسب، إنما هو - كما أوضح لنا الشيخ أبو الحسن حازم القرطاجني - على صلة وثيقة بالظواهر الكونية الكبرى، والأحداث اليومية الصغرى، وما بينهما طازج.. (وهل أوضح ذلك فعلا؟ ربما، المهم أننا ننسب اليه هذه الأقوال الرصينة، والأفعال الرخيمة، لغرض من أغراض الشدّ، والصبغ).

فكيف اذا مزج أحدهم بين الاثنين - الهزل والجد؟ قال:

ويقصد الإشارة الى حشي الدالّات الجدّية بمدلولات هزلية لإتّفاق تداخلهما في بعضهما البعض. والبيض هنا - بالطبع - هو بمثابة البضان، بينما الذكور - وهي السيوف في القصائد الكلاسيكية المغبّشة - تميل الى السيجارة بشكل ملحوظ، وإن كان التبغ غير معروفاً أيامها، لسوء الحظ.

* * *

كثيراً ما يقال في نقاط التحوّل التاريخية: سبحان الله مغيّر الأحوال، ولن تعود الأمور كما كانت من قبل، فكأننا شهدنا لحظة مفصلية، ومفترق طرق، خرجنا من تلك الطريق القديمة الى هذه الطريق الجديدة: والله الموفّق والمستعان. ثم يشرعون في إقامة العزاء لروح السخرية، ويقولون: إنه موت الهزل، لكثرة ما عشناه من مخلّفات الجدّ.

يندلع صراع بين الطرق المختلفة، ومن أبرز أطرافه: قانون الطوارئ. وتحدّي الملل. وكفاية. والتجديد الكويس والتجديد الوحش. وقول بعض السفهاء: لقد عادت المياه الى مجاريها. ولقد بدأت الحياة العادية تعود الى الشوارع. ولقد ولقد ولقد..

فأي عذاب هذا، أن تعيش في حالة من الطوارئ العاجلة من جهة، وبين حالة من الملل المتأصل، الناتج عن الراجل اللي مش هيموت أبدا على ما يبدو، من جهة أخرى.. الحق أني لا أعرف، لكني مع ذلك أثرثر، وأفتي، وأدلي بدلوي لأن هي دي لعبة الموسم، فلم لأ؟

***

" الروتين " له رنّة معيّنة، له رائحة خاصة به وله حركات تُمنع وأخرى تباح، نحن نحسّ الطريق الشعري من خلال السمع، ونحسّه أيضا عن طريق الوزن وجبس النبض، وتكسر البلاط وإعادة تعبيده، ثم لا ننسَ جملة الكيميائيات المنصبّة فينا، حليب المعزة والزنجبيل والخشب المطحون، وأذكر بهذه المناسبة أني قد أقلعت عن شرب القهوة منذ شهر كامل، ولا أشرب الآن غير الشاي ومن أوهمك بغير ذلك فإنه واهم واهم واهم!


14 فبراير 2011

شكرا يا مصر

شكرا يا مصر

حبيبتي في عيد الحبّ

04 فبراير 2011

احا


من أعمال جيبارا ، من أهم فنّاني الثورة المصرية