25 يونيو 2011

أين بوستات يونيو؟

أين بوستات يونيو؟

بدأت ألاحظ، منذ حوالي شهرين أو ثلاثة، سيلاً خفيفاً من الدخان النتن يتسرّب من كوّة صغيرة مدقوقة في جانب هذه المدوّنة. سيل بنفسجي خفيف، يكاد لا يُرى، يتسرّب بهدوء وانتظام وكأنه أمر طبيعي، أو يتصنّع الطبيعية. ولا أخفي عليكم يا أصدقائي ، أني توجّستُ ، والأحرى أني توجّستُ جداً، فربّ جبل جليد وما خفي كان أعظم! فقد تؤدّي الفلتة الصغيرة الى الفلتة الكبيرة، وما الجرح الخفيف إلا عرض من أعراض الخطر الجسيم، والمرض المزمن، المتأصل الأليم..

- ليس هناك ما يثير القلق

قاله السمكري، الذي جئت اليه بالمدوّنة توسّلاً واستجداءاً، فجعل يقلّبها تقليباً ويفحصها فحصاً، بحيث مرّ على ظهرها بإصبعه أكثر من مرّة، بشكل يثير الشكّ، قبل أن يبعبصها كاملاً من الخلف.. ندّت عني إثرئذ صرخة اسنتكار مكتومة، لم تُسمع، لتكون شاهداً ميتاً على كل ما لم أقله في وقته، وهو معظم كلامي..


- عشرين دينار..

كانت عبارته الأخيرة، قبل أن ألمّ ذيلي بين أسناني وأطير الى مكان أريح، وأرخص ثمناً. لا بأس، قلت في نفسي، فطالما لم تظهر مشكلة في عيون هذا السمكري الفاحصة، اذ لا يوجد سبب لجيشان الصدر، وقلقلة الحال.. نعم فالأمر لا يعدو أن يكون سيلاً خفيفاً من الدخان البنفسجي، تفرزه هذه الكوة الصغيرة في جانب من مدوّنتي الطائرة حيناً، والسابحة حيناً آخر..

لذا آليت على نفسي أن أسجّل في بطنها المزيد من البوستات، وما أدّعي أنه جدير بالنشر والإبحار.. والإشاعة.. دون أن أكترث كثيراً بما لا قلق عليه، اذ ليس ثمة عطباً واضحاً، أو خطأً فاضحاً، يدعو الى اتخاذ اجراءات خاصة، أو خطوات استثنائية، ولا أي شيء من هذا القبيل يا ميرفت.

ثم إنّي أُصِبتُ بنوبة من البواسير. فكأن حالة المدوّنة، بكل غرابتها وأهميتها، أقل حجماً وأخف وطأً مما ظهر حديثا في جسدي أنا. وبدأت أتعاطى العقاقير المناسبة لذلك، وأمسح المكان الحسّاس بفوط صحّية منقوعة في القليل من السفرجل المطحون. وواظبت على هذا العلاج لمدّة أسبوعين، وأنا أمارس التدوين بصورة عادية لا يعكّرها لا الشقّ التحتاني ولا الدخان البنفسجي. حتى زالت آثار ذلك الشقّ، واختفت الآلام الملازمة للتغوّط، بل وكل الآلام الجسدية التي تلاشت وكأنّ شيئاً لم يكن: حكّة الناموس، الصداع، التعب والإرهاق في نهاية كل يوم: كلها تبخّرت بعد الأسبوع الأول، وغدوت أمشي في الأزقّة والطرقات دون إحساس حتى بالحذاء المهترئ، الذي يتآكل عند الأطراف.

لذا رجعت الى القلق على المدوّنة، وزاد قلقي هذا، أنّي وجدتها تبخّ بعض الألفاظ الغريبة، كلمات عشوائية لا تربط الواحدة بأختها، فقط براز متواصل من البسبسة والهذيان، لا ترسو على برّ معنى من المعاني.

- ما اسمك؟

قاله شيخ الزار، وقد وضع مدوّنتي وسط حلقة متكوّنة من الرجال المتعمّمين، ومن بينهم العبد لله، فراح يطرح عليها أسئلة من هذا النوع ويستخرج الردود التي أتت على المنوال التالي:

- اسمي.. اسمي، لا أدري.

- طب ركّز معايا كده يا نونو، أولا انت ولد ولا بنت؟

- اسمي..

- ايوة .. اسمك يا نونو، داحنا مستنينه مالصبح..

- اسمنا لجيون!

- أستغفر الله العظيم. ولماذا اخترتم هذا الجسد يا لجيون؟

- طب قول انت ما دام عندك علام والبتاع..

اشتدّ الصدام بينهما، حتى أخرج الشيخ كوكتيلاً كان يخبّئه في جيبه، ورماه هنا. واكتشفنا فيما بعد، أن سبب هذا الدخان البنفسجي إنما مردّه إقبال الجنّ على تناول الغليون الفرنجي كل يوم، وهو ما أحدث شيئاً من البلبلة والاهتزاز في جوانحنا الممتدّة..

--

الصورة: عمر الزعبي

01 يونيو 2011

ريبورتاج ثقافي - الحلقة الثانية

ريبورتاج ثقافي – الحلقة الثانية

موت " الأديبة السعودية النسائية " جثّةً هامدةً على شاطئ الجامعة الأمريكية!

31 مايو 2011

تطرّقنا من قبل الى مسألة الأدب السعودي بالطبع، وذلك في آخر زياراتنا الى القاهرة على وجه التحديد، فما كان قدومنا الى القاهرة هذه المرّة إلا من أجل التوقّف على مصير الخطاب الاستسعادي وانعكاساته وانحرافاته في برّ مصر، وفي بحرها.

وصلتُ مبكّراً الى قاعة الأورينتال في المقرّ القديم للجامعة الأمريكية بالتحرير، تجوّلت في ربوعها الوثيرة وحدائقها الغنّاءة التي افتقدتها بعد أربع سنين قضيتها بين لوعة الغياب ووحشة الفراق، ها أنا أعود اليها محتاراً في أمرها، خائفاً على سمعتها، فهي تشهد اليوم طقوساً جنازية يُشيّع بها ما يسمّى بــ"الأديبة السعودية النسائية"، وذلك بعد طلوع نجمها بأمد طويل، إلا أنها في تمام الساعة السادسة مساءاً بتوقيت القاهرة قد خلصت روحها تماماً ونهائياً، وإنا لله وإنا اليه راجعون..

توقّع الجميع هذه الوفاة منذ عشرة سنين على وجه التقريب، لكنا في الآونة الأخيرة قد ساورنا بعض الشكّ، حتى أخذت عجلة الثرثرة والنميمة في الدوران، فقال البعض: رجل جوا ورجل برا ، الستّ دي مش عايزة تموت! لكني أيها القرّاء الأعزّاء، أقرّ لكم وأمامكم أني شهدت وقوع الجثّة، وإقامة العزاء، ثم دفن التابوت وصعود الروح الى سابع سماء! وذلك في ندوة استضافت الروائية السعودية زينب حفني بمشاركة كل من الدكتور بهجت قرني – أستاذ العلوم السياسيةوالدكتورة ياسمين فاروق – أيضا أستاذة في العلوم السياسية – وأخيرا وليس آخراً، الدكتور عزّ الدين شكري، وهو أستاذ في الأدب المقارن … هأهأهأ لأ دانا بهزّر معاكو، الحقيقة انه أستاذ في العلوم السياسية برضو، وإن كان يعاني "انفصاماً" على حد تعبيره، فهو بالإضافة الى شغله نهاراً كرجل آكاديمي إلا أنه بأوقات الفراغ والهناء يساهم في المجال الأدبي، الأمر الذي نراه مثلاً في روايته الأخيرة "غرفة العناية المركّزة" الصادرة عن دار العين أو دار ميريت أو دار شروق أو ما شابه. خلاصة القول أنهم أربعة، أحضروا معهم سكاكين كانت كفيلة بأن تذبح فيلاً دسماً، إلا أن ذبيحتهم الحقيقية لم تقلّ وزناً ودسامةً عن ذلك بكثير.

افتتح الدكتور بهجت الندوة بكلام جميل جداً عن أعمال الروائية زينب حفني، رغم اعترافه الصريح بأنه "ليس متخصصاً في الأدب". ثم انثنى جانباً ليترك للبثق أن ينبثق، ولقنابل الملل أن تحترق.. تحترق ببطء شديد، حيث أطنبت زينب في خطاب رائع عبقري عن التمرّد وكسر التابوهات، تطرّقت من خلاله الى ذكرى طفولة في الريف المصري، وشجرة جميز، وترعة كانت تفرز إلهاماً أدبياً لا يُنسى، حينها تملّكني الغثيان، وحبست دفعة من القيء في أسفل حنجرتي، توسلت الى الآلهة بقليل من الرحمة، لكنها لم تكفّ، بل استمرّت في إطلاق كافة المفردات المطلوبة منها: شهرزاد، جبريال جرسيا مركيز، تشيكوف، نجيب محفوظ ويوسف إدريس، المجتمع المحافظ، الناس تتّهمني بكذا وكذا وكذا، حتى أتت لبعض الكلمات الأجنبية المكرّرة في النقد الأدبي العربي: نوستالجيا، سادية، مازوشية، برستيج.. وأغمى عليّ في الحال. وفي حلم يقظة، نظرتُ بتركيز الى باقة الأزهار الصارخة التي تتصدّر المنصّة – وأقول لكم بكل صدق أن هذه الباقة من الحجم بحيث كادت أن تبتلع السيّدة زينب ذات نفسها – فتمنّيت أن يحدث عطب مفاجئ في المصباح المعلّق فوقها، فتنفلت منه شرارة كهربائية صغيرة لكن دسمة، لتولع النار في تلك الباقة الكريهة، فيشبّ لهب صغير فيها يجبر السيّدة زينب على التحرّك قليلاً، أو حتى رفع أحد حاجبيها.. لكن ليس لي إلا أن ألوم نفسي على الحضور، شعرتُ أني مسؤول ولو قليلاً عن هذه الجريمة، حتى أدركت أن هذه الندوة فيها من الموادّ الدسمة ما يصلح للتدوين، ومنها:

تلك البدلة البيضاء، المنقّطة بنقطات - أو قل بقعات - سوداء كبيرة. لقد رأيت هذه البدلة من قبل، مرّة وأنا صغير زرت مزرعة في الريف، رأيت بهائم خانعة ورقطاء تخور وتخور، وتأكل العشب، ثم تُذبح لنأكل لحمها الطري. لم تكن السيّدة زينب ذبيحتنا هذا المساء، وإنما كانت فداءاً لنموذج منتشر من الشخصيات المستسعدة، اللواتي حضرتُ جنازتهنّ اليوم.

حديث يأتي من الأعماق " قاله الدكتور بهجت قرني، غير المتخصص في الأدب. ثم أفسح المجال للأستاذة ياسمين فاروق أن تشكر السيّدة زينب بدورها في صناعة رواية "سهلة للهضم" فهي رواية"قصيرة" و"مافيهاش تفاصيل كتيرة ملهاش لازمة".. ثم استطردت قائلة: " أنا شخصياً ضد كليشيهات معيّنة، فلماذا لا تجرّبي يا زينب بعض المواضيع الأخرى؟" ولاحظت أن السيدة زينب قد غاصت منزعجة في كرسيها، مستسلمة الى حالة من الانجعاص ظلّت الى نهاية الجلسة. لكن الرصاصة الأخيرة أطلقها الأستاذ عزّ الدين شكري، اذ طرح على الروائية بعض الأسئلة الحقيقية من بينها: “ لماذا تقولين أنك روائية سعودية، وهي صفة تنتسب الى الأسرة الحاكمة ولا شيء غير ذلك؟" فما كان من الروائية إلا أن تقبل هذه الرصاصة على سبيل الانتحار اذ قالت: “دا سؤال سياسي مش إبداعي، خلّينا في الإبداعي"..

ولأني من ذلك النوع الضعيف من البشر، الذين يكرهون رؤية الدم ويخافون مشاهد القتل والعنف، فلقد تركت القاعة بالسرعة من غير أن أنظر الى الوراء، لكني لم أخرج من الجامعة إلا بعد تناول بعض الشاي المتوفّر مجاناً للحاضرين – أو قل المتعزّين – وهو النهب الوحيد الذي فزت به من هذه المهزلة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

---

[لوحة "العك" من أعمال الفنّانة نجلى بسام]