02 أبريل 2012

لا أساس له من الصحّة

لا أساس له من الصحّة

ثم دخلت سنة ألف وأربعمائة ونيّف

وفيها في محرّم، انتشر المنادون كالجراد في المدينة، وأعلنوا نية السلطان الغوري تولية حسين بن بركة أمور الحسبة، فتهلل الناس وزيّنت شيكاغو ثلاثة أيام متتالية، وأقام الأهالي الولائم وسهروا في الطرقات معربدين متماجنين وقد ابتكروا في الاحتفال تفانين عجيبة ، هذا يرقص رقصة البهلوان في السرك، وهذه تضاجع جاريتها علانية، وقيل شوهد الأمير طغلق وهو يعفي جنوده عن الخدمة لمدّة عام، وقيل شوهد الغوري نفسه يرمي على مراته يمين الطلاق فرحاً وابتهاجاً بالصاعد والآتي، ثم مضى الناس متعبين إلى منازلهم وانشغلوا بأمور البعبصة والكمرشة وضرب العشاري..

وفيها في محرّم رابع عشره، جاءت الأخبار باستمرار الأمير طغلق في منصبه، وذلك حفاظاً على الأمن في الداخل والخارج.

وفيها في محرّم ثالث عشرينه، نادى المنادون بنية حسين بن البركة، متولي الحسبة في شيكاجو وظواهرها، ومناصب أخرى، الإفراج عن جميع المعتقلين في المقشرة، فتهلّل الناس لذلك واستقرأوا فيه البشرى والبشارة والعلامات المباشرة، وثم بطل ذلك الأمر وخاب رجاء الناس، ثم بطلت خيبتهم، وبطل الباطل، وحصلت بلبلة في الأفكار، ثم مضوا أفواجاً إلى منازلهم وانشغلوا بأمور البعبصة والكمرشة وضرب العشاري..

* * *

اعرفوا أن مدينة شيكاغو لقّبت بـ«مدينة الخجولين» وذلك لتمكّن الروح البروتوستانية والغرب-أوسطية من أهاليها وترسّخها فيهم وسريانها في دمائهم الهادئة والتي تميل إلى البرودة المتمثّلة في التكشيرة الرباعية - وقيل السداسية - كما أنها تدفعهم إلى نبذ الأساليب المعبّرة والارتياب من التصوير والتمثيل والفنون اللغوية على أنواعها. وهي تتمثّل أيضاً في التواضع المفرط – وقيل المفبرك – والتفاقر في الملبس والمأكل ونحو ذلك. والتظاهر بالانشغال طول الوقت، والتذمّر من ذلك قدام الناس، اللي مش شغالين قد ما انت شغال. لكنها مدينة أيضاً لُقّبت بـ«مدينة الرياح» ، واختلفت الآراء في سبب ذلك، لكن الغالب أنه يرجع إلى انتشار الحكي الفاضي فيها، وميل أهاليها إلى ترصّد الأخبار الغرائبية والأحاديث العجائبية، وتصديقهم السريع للأراجيف الفاسدة والإشاعات الكاذبة..

* * *

وفي يوم خامس عشرينه، وهو يوم سبت، والناس يتوافدون للصرمحة في الحدائق العامّة والشرشحة في الحمامات المغلقة بالمفاتيح آه والله بالمفاتيح، وهمّوا بالقيام بأعمال الراحة والاستراحة، تهيؤاً ليوم مشمش جميل، إذْ ارتجّت المدينة وظواهرها، وقيل قد ركب فرسان الحسبة، وقيل يخطّفون الستات والعجائز، خاصة العجائز، فسرعان ما انفكّ شمل الناس، وراحوا يتخبطون في الشوارع والطرقات وهم يعلون أصواتهم بالصيات والعياط، حتى سقطت من بعضهم الدولارات وهم غير مدركين لذلك، وهربوا ليتأكّدوا من سلامة العجائز، وصحّة البالغين، وأخذوا يشيرون بأصابعهم ويلقلقون بالغمز واللمز وهم يقولون: ابن بركة هذا، منه لله..

وفي نهاية اليوم لم يظهر للإشاعة صحّة، وكان سبب ذلك، أن المدينة كانت تعاني نقصاً شديداً في الأطبّاء، بل كان الطبّ حكراً على سكان الضواحي وظواهر المدينة دون الساكنين في باطنها وأمثالهم في القرى والأرياف، لذا رفع بعض الناس شكوى إلى ذوي السلطة في المدينة، لكن تم تكفيرهم ، واُتهمّوا بالشيوعية وعبادة النار، ثم قام غيرهم وقالوا احنا عايزين نبقى زي اوروبا، لكن تم إقصاءهم هؤلاء أيضاً وقُذفوا بالجنون والتخنيث .. المهمّ، جاء متولّي الحسبة وأصدر قراراً بتوسيع حظ البلد من الأطباء، وكتب في ذلك مرسوماً تعدّ صفحاته بالآلاف، ولما كان الناس يفتقرون إلى الأطبّاء فلم يتمكّنوا من تفسير طلاسم المرسوم و قراءة ألفاظه، ممّا أدّى إلى خرافة انتشرت انتشار النار في الهشيم، مفادها أن فرسان الحسبة عاوزين يموّتوا شيوخنا، فحصل ما حصل من إفساد يوم السبت ذلك.. ولم يتوقّف بعض الناس عن تكرار تلك الشائعة، لغرض ما في نفوسهم والله أعلم..

* * *

ومن الغرائب في هذه السنة، أنني سمعتُ أحدهم يقول: انظر إلى هذا الأعجم، كيف ترواغ ودخل إلى مدينتنا ونحن لا ندري!

فقلت: من تقصد؟

قال: ولو يا غبي! أقصد حسين بن بركة هذا، بالطبع..

* * *

« ولما نزل من الجبل، تبعته جموع كثيرة، وإذا رجل مصاب بالبرص، وتقدّم إليه وسجد له قائلاً: يا سيّد إن كنت تريد فأنت قادر أن تطهّرني! فمدّ يده ولمسه وقال: إني أريد، فاطْهَرْ ! وفي الحال طهر الرجل من برصه »

* * *

وفيها في رمضان، انتابت الناس فرحة عظيمة، فقيل سيخطب متولي الحسبة حسين بن بركة في مجلس الأمراء، وذلك لتدارك المسار، ودفع العار، وتبديد الشكّ وتوضيح ما تردّد من لكّ وعكّ، ولتّ وعجن.

وقام متولّي الحسبة خاطباً في الناس، وقد سجّلنا من نصّه ما يلي:

« لا أزال مؤمناً ، لا أزال مؤمناً »

« أشعر بكم وأتألم بآلامكم، الأبرص، والأعور، والأشول، والأبله حتى، خاصة الأبله »

« مش هنموّت العجايز ، الكلام دا كله اشاعات مغرضة، لا أساس لها من الصحة »

وتهلّل الناس وقاموا مصفّقين. وابتسم متولّي الحسبة، ثم ألقى نظرة إلى اليمين وأخرى إلى الشمال، وانتبذ جانباً ليعود إلى داره، حيث أمر بقصف قرية أفغانية مات فيها عدد كبير من الشيوخ والأطفال.

* * *

« ولما نزل من الجبل، تبعته جموع كثيرة، وإذا رجل مصاب بالبرص، وتقدّم إليه وسجد له قائلاً: يا سيّد إن كنت تريد فأنت قادر أن تطهّرني! فمدّ يده ولمسه وقال: إني أريد وأنت تريد، لكن من غير تأمين صحي انت كده هتفضل طول عمرك أبرص ابن أبرص! وانصرف عنه إلى جهة غير معلومة »

* * *

وفيه جاءت الأخبار مضطربة من مجلس الأمراء، حيث قيل إن الأمير قشتمر تصارع بالعكاكيز مع الأمير شبرق، وسقط الأخير مغشياً عليه والدم يتدفّق حارّاً من نافوخته، وعولج والحمد لله وتعافى بفضل النطاسي الخبير المرافق له على الدوام لكنه ما زال حانقاً على الأمير قشتمر لما أبداه من سوء أدب وهجوم بالعكّاز، وقام نتيجة لذلك ومعه جمهور كاسح من أصدقائه الأمراء ذوي العكاكيز والفؤوس، قاموا ليفرشوا المجلس بالحطب الجافّ وأشعلوا فيه النار. وقام فريق الطوافئ بإخماد النار فنجا من كان بالمجلس، لكن إثر انسحابهم بعدّة دقائق إذْ سقط من الأمير شبرق غليونه الإفرنجي المعقوف وكأنّ سهواً، سقط في كومة من المراسيم وكان كفيلاً بإشعال حريق أهول من الأول هزّ أركان المجلس ومسخ فيما مسخ نصّ المرسوم الذي تعهّد به متولّي الحسبة منذ عدّة أيام..

وضجّ الأهالي وتذمّروا لذلك لكنهم سرعان ما مضوا أفواجاً إلى منازلهم، لكنهم هذه المرّة لم ينشغلوا بأمور البعبصة والكمرشة وضرب العشاري، إنما استحدثوا بدعة جديدة وهي التلاعب مع صور القطط على الانترنت وتزيينها بملابس فكاهية وإجبارها على الرقص على الطريقة الأمريكية ونحو ذلك..

* * *

ومن الغرائب في هذه السنة، أنني سمعتُ أحدهم يقول: تعالى تشوف القطة دي! بتحكي لغات! وبتغنّيهم كمان! وبترقصهم كمان!

* * *

وفيه في رمضان، فوّض متولّي الحسبة، حسين بن بركة، الأمير حبلق بالدفاع – أمام المحكمة – عن نسخة المرسوم المحروقة، بغية إعادة لحمها، وإثبات شحمها، وتمريرها ليتحقّق مبدؤه، ويتأكّد خبره.

قال الأمير حبلق: أيها السادة القضاة، بارك الله هذه المحكمة، وأيّد قرارها وأشعل منارها، سيدات وسادة الشعب، أقول: هذا الحريق الذي شب في مجلس الأمراء، عار على أمّته، ووصمة على سمعتنا، لم يسمع بمثله التاريخ الأمريكي قط، لم يسمع به قط، قط..

القاضية الأولى: أفندم؟

الأمير حبلق: أقول: هذا الحريق لم نسمع بمثله قط، قط، قطقط، قططط..

القاضية الأولى: وصلت الفكرة يافندم.

الأمير حبلق: لا، لا، قطقط، قط، قطاطق، قطقوط..

قاضي القضاة: هنهزّر؟

القاضية الثانية: ماشي يا فندم، وصلت الفكرة. كمّل..

الأمير حبلق: أيها السادة القضاة، بارك الله هذه المحكمة، وأيّد قرارها وأشعل منارها. أقول: أقوم هنا للدفاع عن هذا المر.. هذا المر.. المرمر، هذا المررر..

القاضية الأولى: اهدا يا حبلق.. انت عطشان؟ عاوز تشرب حاجة؟

الأمير حبلق: أقول، هذا المرر.. هذا المرمر، مر، هذا الممم ... هذا المواء!

وعند نطقه هذه الكلمة الأخيرة وإذا بالأمير حبلق يغشى عليه وسقط على الأرض ومات في الحال، وعلى وجهه ابتسامة بلهاء. وعندها قام قاضي القضاء خاطباً في الجمهور وقال: أحكمت المحكمة على هذه المدينة بحالة مؤبّدة من البَرَص: أنت أبرص، وأنت أبرص، كلّكو بُرص، وعشرة خرس!

ثم ألقى نظرة إلى اليمين، وأخرى إلى الشمال، وانتبذ جانباً ليعود إلى داره، حيث قعد منجعصاً وأطلق كرشه مربرباً وابتلع طاسة كاملة من السمك المملوح بنهم وشهية بلهاء، وقيل: حوض من القرموط النيّ، وقيل: طبقة فيها من الرنجة قدر ما فيها من البوري، وصدر عن أصابعه صوت بين المصمصة والكمرشة، وفيها رذاذ مقرف من عكارة الزيوت والزعانف..

* * *

ومن الغرائب في هذه السنة، أني سمعتُ أحدهم يقول: ملعونة القطط دي!

فقلتُ: دانت بارد قوي علي فكرة!

* * *

(نداء)

يا أهالي البلدة، يا أهالي البلدة

كُشف أمر القطط، وأميط اللثام عنها، وثبتت حقيقة المؤامرة التي تحيكها ضد البشر،

يا أهالي البلدة،

وسيتمّ فضحها على الملأ

يا أهالي البلدة،

احضروا يوم الجمعة إلى ساحة البندق المضيئة،

وسيتمّ فضح القطط قدام الناس، اللي يسوى منهم واللي ما يسواهش،

ومن تخلّف عوقب بعذاب أليم..

* * *

أخشى النزول إلى الشوارع، يتناهي إلى مسامعي في هذا المكتب هسيسٌ أصفر مروّع، أقرب ما يكون إلى تباطؤ الفؤوس وتردّدها قبل الذبح، تآزرت العوامل التي جعلت من هذا الهسيس طنيناً صدئاً يحفر الأخاديد في حيطان النخاع، الحق، لا أقدر أن أميّز بين هذا الصوت وبين ذكراه..

الحقيقة الثابتة، التي لا مراء فيها: صارت القطط هي المتسلّطة في كل شيء، بعد أن باءت عملية تطهيرها بالفشل الذريع، إذ تفاقمت الأزمة، واندلع الفوضى، فغارت القطط، أو غاروا، الويل لمن يجرؤ على المساس بها، أرى رجلاً – جثّة – في قارعة الطريق، لم أرَ ذبحه، بل أشكّ أن هناك من شهد الذبح حقاً، لكن الثابت، المؤكد، أنه لقي مصرعه إثر محاولة يائسة للتفاوض معها – أو معهم – محاولة للتعقّل، ودعوة إلى الرأفة بخلق الله، حينها – وأعيد وأكرّر أنني لم أشهد هذا، لكنه موثّق بالأدلّة ومدعّم بالقرائن التي لا يتسرّب إليها الشكّ – حينها، أصدرت القطة مواءاً – هذا الهسيس الصدئ – فمدّت يدها ولوّثت المسكين ، قالت: أنت ملوَّث.

وجاءت الأخبار بأن الأمير شبرق هو من أطلق هذه القُطَيْطات اللطيفة – لطفها خادع ومزيّف، لكن اللطف هو اللطف.. حقاً، شو مهضومي (لا يحضرني القول المناسب بالمصري) – وقيل إنه هو من حاك هذه المؤامرة بحذافيرها، لكني أستبعد ذلك، الأمير شبرق لم يظهر منذ وقيعة الحريق، وأكاد أجزم بأني رأيته تعتليه مفرقة من القطط الشرسة، تهبش فيه، وتمزّق قميصه وتجبره على الرقص، هكذا، نعم، ارقص يا شبرق، قالت، أو قالوا، البعض هرب إلى باريس، مدينة الأنوار، هناك القطط قلّة لا شك وإن وُجدت فهي لا تهرش كثيراً، نظراً لأنها ناقصات عقل ودين، هكذا قالوا، أرى إمرأة منكوشة الشعر في مهبّ الريح، تستجدي، لكن لا حياة لمن تنادي..

في الأسبوع الأخير، لاحظتُ جرحاً طفيفاً في جلدي، عدت اليوم لتمحيص أمره، وقد خُيّل إليّ أنه طفرة وراثية، أو خروج عن الجذور المكتوبة، فيه وخزة أمل ممزوجة بحكّة فضول، سمعتُ هاتفاً يهتف في جوف الأمعاء، وله صدى في شرايين المأكولات: يجب التفكير جدياً في علاقة جديدة مع الكائنات، ليس التعايش فقط إنما التصاير، الصيرورة التعاونية، المشاركة الوجدانية بل والأخلاطية، تخاطف أطراف الصفراء والسويداء مثلاً، ويجب التفكير في علوم جديدة لتحصيل ذلك، وبعث الحياة في القديمة منها، الجفر، الجمّل، ضرب الأربعين.. قد يغار بعض الناس من وضعي هذا، قد يحسدونني، هؤلاء هم المحظوظون، لن أذكر التائهين، هناك صوت غريب يتطلّع إلى الخروج من الحنجرة، والحلقوم، وأكاد أجزم أنه حيواني الطبع، حوشيّ الاتجاه..


-----

(هذه التدوينة تعتبر جزءاً محذوفاً من رسالة الدكتوراه التي أعدّها حاليا: « الإشاعة: استقراء النصّ المتهرّب في الداخل والخارج » قريباً في الأسواق، ربما)