11 يونيو 2010

جسد بلا أعضاء

جسد بلا أعضاء

لقد بدأت أهتمّ في الآونة الأخيرة بما يسمّى بالجسد، ذاك الماعون الإنساني الفذّ الذي يحتوي على كافّة الماكنات الصغيرة، تعمل في الصمت، كما تتضافر في غياهبها شتى أنواع الأسلاك الرفيعة والأفلاك البديعة* تجري من تحتها ومن فوقها ومن خلالها أنهار متدفّقة من القيح والدم والخرا والعماص.. سفن وقوارب مشحونة بجميع أصناف المنكر، منافذها ومخارجها تتستّر على الخبر، تنتفخ وتتفجّر بالاحمرار..

لذلك قد وافقتُ على بضعة مشاريع استكشافية، علّها تسلّط الضوء على بعض ما غمض من أطراف هذه الكتلة الضخمة من المادّية المفرطة.. مثالٌ على ذلك ما قدّمته مؤخّراً بخصوص الأخلاط الجسدية الأربع، ورغم أني ذكرتُ منها اثنين فحسب فلا يقلّل ذلك من أهمية النتائج، وخطورة المباهج،** الساحقة الجارفة في وضوحها التامّ..

إلا أنه قد تناهى الى مسامعي منذ فترة قصيرة ما مفاده أن الجسد في خطر، فقد تربّص له بعض الذين بقلوبهم حقد ومرض ورياء وزيغ، خاصة الزيغ، فاستلّوا خناجرهم وانقضّوا بلا هوادة، وجعلوا منه ومن عماصه أشلاء..

وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: هل كان لكلّ ذلك أن يحدث؟ هل كان لا بدّ مما ليس منه بدّ؟

أنا مثلاً لم أكن أعرف - إلا منذ فترة قصيرة جداً - أن لدي جسداً.. ألا إنه شيء غريب، فكّرت، أن يكون لي هذه الكمية الهائلة من اللحم والقيح والدم.. هذه التركيبة المحدودة من الأذرع والأسنان والصدغ والأكواع.. والعجيزة***.. لكنه الحقيقة. كلّ المعطيات العلمية تشير الى ذلك، حتى السحر الأسود والخرافات الشعبية تقول بوجود الجسد الملموس الحيّ، فلا مفرّ..

لذا فيكون من الطبيعي أن يتعرّض هذا الشيء - نظراً لوجوده الجسماني - لخطر التدمير والتعوير والمعاول الهدّامة. خاصة المعاول الهدّامة.

وقد يكون أكثر ما يهدّد الجسد هو الجو نفسه، بما في ذلك من تقلّبات مناخية وأحوال طقسية، وهذا ما تبيّناه أيضاً في التدوينة السابقة، فلا يكون ذكره سوى ضرب من الملل والتكرار..

أمّا الجسد بلا أعضاء فهو الفضاء الافتراضي، بكل ما في الكلمة من معنى. هذا الجسد يتجاوز الجسد الجسماني المحدود، بل يدلّنا على أن هذا الجسد الأخير لا وجود له أصلاً، فهو مجرّد تبسيط مخلّ للأمور، لا يقدّر مشروع الصيرورة التعاونية الكبرى (becoming-with) التي تعدّ جزءاً لا يتجزّأ من جملة العناصر الصغيرة الفعّالة - بما فيها من أحقر الخلايا السرطانية وأشطر القبائل الغجرية وأعلى الكائنات البشرية وأسفل الدرجات الحرارية - المرتبطة ببعضها البعض، ليس في نظام بنيوي شامل إنما حسب توافق الأشياء وتباعدها في ظروف عبثية مطلقة..

مثل هذه المشاريع يجب أن تكون تجريبية، يفترض ألا تكون متجمّدة متحجّرة نهائية، فالإنسان الصائر التعاوني - أو قُلْ الإنسان المتصاير وهو أحرى وأظرف - لا يكتفي بالرأس الواحد المملّ، بل إنه ليجرؤ على ارتداء رأسين، ثلاثة رؤوس أو أكثر فيصير بذلك على منوال الهيدرا الأسطورية.. كما أنه لن يكتفي بساقين عاريتين، إنما سيذهب الى أن يكسوهما بالبنطال الأزرق المحزّق المعروف وهكذا..

جميع المخارج مفتوحة، جميع المنافذ مفشوخة، ولم أجد صورة أنسب وأليق من هذه القمورة السبعينية الحمراء فصبركم جميل وسعيكم مشكور..

---


*قوله والأفلاك البديعة، واحدها الفلك أي السفينة التي ملأها سيّدنا نوح عليه الصلاة والسلام بكافّة أنواع الحيوانات، وذلك لفطنته الواسعة وشطارته الشاسعة، اذ أن سيّدنا هذا قد فطن الى أن الإنسان لا يصير لوحده بل يتصاير (إن صحّ التعبير) مع أجساد أخرى غير جسده، إنسانية وآلية وبهائمية أيضاً ربما والله أعلم.

**قوله وخطورة المباهج، وهو بلا معنى إنما قُصد منه استكمال العرض استبياع الفرض والله أعلم.

*** قوله العجيزة، وهي ما يسمّيه البعض المؤخّرة، والإليتين، والكفل، والأرداف، وأخيراً وليس آخراً الطيز وهو ما يتعرّض في العادة الى البعبصة والجعلصة وغيرهما

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق