06 سبتمبر 2010

صيف الحبّ

صيف الحبّ

يسرّني أن أبلغ الجماهير الهادئة بأن هذه المدوّنة المتواضعة / المنصّة المتعاظمة سوف تبثّ في غضون الشهر الحالي سبتمبر/أيلول عدداً من البوستات أتطرّق فيها الى ظاهرة من ظواهر الإنسان الراسخة والتي داعبت على مرّ السنين ما يتدلّى من أجساد البشر المهتاجة كثيراً: ألا وهي الحبّ. ذلك أننا وكما هو معروف قد شهدنا وتجاوزنا مؤخّراً حقبة تاريخية مباركة تلخَّص في كلمتين اثنتين لا ثالثة لهما: صيف الحبّ، ألفين وعشرة.

وبما أن الحدث الشخصي ما هو إلا انعكاس مصغّر للحدث الكوني العالمي الأعظم، فاعرفوا أن هذا الصيف المليء بالحب قد دخلته عن طريق رسالة تافهة وصلتي من وكالة الضرائب الفيدرالية، يخبرونني فيها بأنني تحوّلته من موظّف أمريكي عازب الى موظّف أمريكي متزوّج. وما أن وصلني الخبر حتى أسقط في يدي وأغمى عليّ أو بالكاد.. ثم سرعان ما عدت الى هندامي المعتاد ورفعت الهاتف - وهو الموبيل/الخليوي/الجوّال/البعكوكة - فاتّصلت بالأهل وبشّرتهم بالفرح الذي عمرهم ما كانوا يتوقّعونه. ولا يفوتكم طبعاً أن الحكاية دي كلّها أونطة، أيْ خطأ أحمق ارتكبه أحدهم في دهاليز البيروقراطية المدغمسة، خطر له أن يلاعب بالملفّات ويخلط الأوراق كما أحسب، إلا أنني قلت في نفسي: لماذا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ؟ هكذا استيقظ شيطان الشعر، الوسواس الخناس، فاستدرجني الى مهمّة أعظم وأفشخ، وكانت الإشاعة. لم يتطلّب مني الكثير: توزيع بعض الهمسات البريئة والإيحاءات المليئة بين عدد محدود من الأصدقاء، ارتياد أماكن الثرثرة وجلسات النميمة بانتظام، ثم أخيراً وليس آخراً تزوير بعض الرسائل الغرامية المتبادلة بيني وبين المعشوقة هند رستم. التهمتُ التفاحة بحذافيرها، والنتيجة معروفة جيداً للجماهير الهادئة المشار اليهم أعلاه.

المهم أنه صيف الحبّ، وذلك لأكثر من سبب. فلقد تم تعيين الليدي كاجا قاضية من قضاة المحكمة العليا، ثم قبلها بقليل دخلت ولاية كاليفورنيا ومثلها جمهورية الأرجنتين الى مجموعة البلدان المعترفة بأنها لا تمانع كثيراً على اللواط والسحاق. لكن قوى الحبّ الكاسحة لم تقتصر على الأمريكتين فحسب، بل امتدّت الى ألمانيا حيث لقي أكثر من عشرين شخص حتفهم في تدافع أثناء مهرجان الحب في برلين.

ولا ننسى ما كان من اندلاع بئر النفط ثم سدّه سدّاً قوياً بعد ذلك، مما لا يخلو من بعض الرموز الجنسية لا شك.

وفوق ذلك كله، نطمئنّ الى أن السيّد باراك حسين أوباما ما زال رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، اذن كل شيء على ما يرام والحمد لله. أو كما قال سلطان الطرب جورج وسوف في وقت من الأوقات: لسه الدنيا بخير يا حبيبي، لسه الدنيا بْخييييير.

والآن، اليكم بالتدوينة الأولى من سلسلة الحبّ والهوى.

* * *

الطواف

أتذكر بوضوح أيام المدرسة الثانوية في تونس الخضراء، حيث كنا نتلقّى بعض الدروس النحوية من كتاب بعنوان "النحو العربي من خلال النصوص" بتأليف الأستاذ عبد الوهاب بكير، صدر عن الشركة التونسية للتوزيع سنة 1973. كما أتذكّر بوضوح تامّ ذلك الدرس المخصّص لـ"الجملة الواقعة موقع المستثنى"، والذي حفظتُ منه المقتطف التالي:

ثم إنّه حجّ فبينما هو يطوف بالبيت اذ نظر الى فتى من نمير يلاحق جارية في الطواف ويتبعها بالنظر. فلما رأى ذلك منه أتاه وقال له: أما رأيت ما تصنع أيها الفتى؟ فقال له الفتى: إني لم أرتكب ذنباً سوى أنني نظرت الى هذه الجارية، وإن لم تشأ إلا أن تعرف الحقيقة فلا تعجّل عليّ!

قد نُقل هذا الجزء عن أحمد بن عبد ربّه في كتابه العقد الفريد. لكننا لا نعيده هنا لما يتضمّنه من فائدة لغوية، أيْ الجملة الواقعة موقع المستثنى، بل نحبّ فقط أن نشير الى فحواه العاطفي البسيط، وما يشمله من براءة الشوق، وبلاغة العشق، وقوّة اللفّ والدوران.

فإن الرغبة من شأنها أن تولّد التعلّق، والتعلّق من شأنه أن يولّد الوجد والهيام، وما هذا الهيام إلا تعبير عن الاسترسال، والإطناب، والتبسّط في الكلام المنظوم: أي باختصار، الطواف بالبيت، الشعر. ليس من المستثنى اذن أن تجد شخصاً - وقد خالجه من الوله الشيء الكثير - متخبطاً في الطرقات الممهّدة جيداً، والتي هي ذات البنية المعمارية المنظّمة المنظومة، ثم وهو يهذي هذياناً معووجاً يعكس بشكل مباشر ما يقوم به من تفسّح وسير..

اذن فالطواف يمكن اعتباره على أنه عاطفة/حالة ذاتية تتّصف بتركيبة معيّنة، يترابط فيها كل من البنية المعمارية والحركة الجسدية والمياعة اللغوية، ثم تلاقي بعض الأشياء وتباعدها عن بعضها البعض مما يرجع أصلاً الى دوافع اللفّ، والتيه، والتحسّس والتكرار.

من هنا يجوز أن نتطرّق الى تركيبة ذاتية مماثلة، والتي تتلاقى مع الطواف في نقاط معيّنة وتتباعد عنه في نقاط أخرى، اذ أن هذه التركيبة الثانية هي وليدة هندسة معمارية مشابهة نعم لكنها مختلفة، كما أنها تتوافق مع تكتّلات مادية مغايرة، ويتعامل مع أدوات لغوية جديدة. هذه التركيبة الثانية اسمها الصرمحة. وهي ممارسة ترفيهية غرضها التعرّف على شخص لأهداف غرامية قد تؤدّي الى الوصال والجماع والمضاجعة والباه.

ويتوفّر هذا النشاط عادةً في الأماكن والمساحات ذات التصميم الهندسي المعماري اللائق، أيْ التي تتيح درجة عالية من الازدحام والدوران: المجمّعات التجارية الحديثة، الكورنيش، الميادين، الخ. أما البعد الخطابي، فإنه يجري على منوال الاقتضاب، والإيجاز، والغمز واللمز..

ولهذا الحديث تتمة فيما بعد..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق