14 يناير 2011

المحيط الفشري في شرح كلام عالبحر (3)

المحيط الفشري في شرح كلام عالبحري (3)

باب الأخولوتل

يحدث أحياناً أن الإنسان يمرّ بمراحل زمنية معيّنة، يخيّل إليه أنها مختلفة عما سبقها ومغايرة لما سوف يلحقها، فيقول مثلاً إن تلك كانت مرحلة اللون الأخضر، وتلك هي مرحلة القلقلة والانهيار، أما هذه التي أعيشها الآن فلا بد أنها مرحلة الإيقاع السريع، والخطو الهريع، وإن كانت أقرب ما تكون الى الضباب الرمادي اللزج، لا أتبيّن فيه الكثير.. وبين تلك المراحل المرقومة تعدّ أيضاً مرحلة البطولات العظيمة، ومرحلة الفانتازيا الجارفة، ومرحلة النميمة المنجعصة وغيرها.. يرجع المرء الى هذه المراحل ويجترّها، يسجّلها ويصنّفها، يحلّلها ويفسّرها، الى أن يقتنع بشيء من الحتمية القاسية، وإن كانت دافئة متبسّمة في رداء معانيها القاطعة، المفروغة منها.

تلك هواية لا أملّ الفرار منها، لكني ههنا أقول – نكاية فيها – إنها ربما لا تخلو من بعض الفائدة، فأعترف لكم يا سيّداتي وسادتي أنني أنا أيضاً مررت بمراحل زمنية طالت أم قصرت، دامت أم انتهت فهي محدّدة مخطّطة لا تنفلت من مخالب المعرفة والتنوير. فالحقيقة أنني قد عرفت منذ زمن قصير مرحلة أسمّيها مرحلة الأخولوتل، وهو الأمر الذي لا يغيب عن بعضكم بالطبع. إلا أنني أحبّ أن أرجع اليها كتابةً وقراءاةً، ليس بصفته حيوان برمائي عجيب، إنما بصفته زمن من الأزمان المعروفة، وحقبة من الحقب المدروسة، ومرحلة من المراحل المحروسة وأقول:

الأخولوتل وهنا نأتي على ذكر الأخولوتل باعتباره زمن، هو تقويم خاص لا يقاس بالمقاييس المعتادة فهو يخرج عن لسعة العقارب السامّة، وفي الزمن الأخولوتيّ هذا لا نقول "ثانية واحدة" أو "دقيقة واحدة" أو "أجيلك بعد ساعة"، إنما نقول "زعنفة واحدة" أو "يد واحدة" أو "أجيلك بعد تحوّلٍ عضويّ آخر"، ذلك أن مخلوقنا المائي هذا قادر على تعويض ما فقد من أطرافه اللحمية الكثيرة.. هذه هي مصطلحات زمننا اذن، وهي تختلف كل الاختلاف عن المصطلحات الكاسدة القديمة، الى درجة أنها تستلزم لغة مختلفة أيضاً لها قواعدها المفضّلة بحيث لا نقول:

ديل الكلب عمره ما ينعدل"

إنما نقول "ديل الكلب المائي ينعدل وينعدل، وهذا حسنٌ" لأن العبارة الثانية أليق وأظرف من الأول، وان اختلط فيه شيء من الطين والماء المسوّس، السائد في بحيرات العاصمة المكسيكية وبركها الضحلة الشفّافة، الزاخرة بالخصوبة والانفلات، والتضاجع الأخولوتي الآخذ في التلاشي والاضمحلال..

ولقد دأب بعض علماء الهندسة على ضبط تقويم ثابت ومعقول لهذا الزمن الأخولوتي، فأبدعوا كافّة الأدوات المعدنية الغريبة، والأوعية الزجاجية العجيبة، إلا أن محاولاتهم هذه كلها باءت بالفشل، فصدئت تلك الأدوات وتغبّشت تلك الأوعية، واستنفدت أموالها على كل حال فلا أحد يهتمّ بفكّ هذه الشيفرة المستعصية على العاقل قبل المجنون، والسويّ قبل المتشقّق، والواعي قبل الأهبل وهكذا..

لكن الخطأ يكمن في اعتباره – أي الزمن الأخولوتي – محكوم بشيفرة أصلاً، فهو يعتمد على الفلفصة والارتجال، والخلبصة والانتهاز أكثر مما يعتمد على الوزن المنظوم والجذر المعلوم. وخير دليل على ذلك ما دوّن له بعض مؤرّخيه في كتاب من كتبهم الملتوية فقال:

(التحوّل الجلدي الرابع والخمسون بعد المئتين، في الزعنفة السابعة والنصف من الذيل الثاني)، والظهر محدودب قليلاً لكن العامود الفقري بخير، بارز نعم لكنه سرى فيه شيء من الاستقامة الملحوظة رغم كثرة النتوءات، وردت أخبار قدوم الخيول الى الثغر، ثم وصولهم الى البرّ حيث أخذوا يفتّكون بالأهالي ويعيثون في الأرض فساداً وإرهاباً، لكنهم أبصروا ما في الخياشيم من برق ورعد وغضب وكبرياء، الأمر الذي جعلهم في حيرة من أمرهم فشرعوا في التراجع والارتداد، والفرار والابتعاد وهم هاتفون: مابلاش يا جماعة، احنا ناقصين..

وانفتحت الأسارير، وانتفشت السوالف الوردية حتى خيّل الينا أنه على أهبة الاستعداد لأمر عظيم، ولم تخب الظنون اذ أنه سرعان ما انتفخ انتفاخاً هائلاً ثم عاد الى حاله وصبّ لنفسه فنجاناً برّاقاً من القهوة المحلية، واستند الى كنبة مهترئة كالذي يقول: تفضّل، تشرب ايه؟

قرّب الفنجان من شفتيه المنفرجتين عن ابتسامة مكر وتواطؤ - فضحك. وضحكته تلك جعلت في المشروب عاصفة صغيرة، تراقصت فيها الأضواء، تمازجت فتقلّبت، وفاضت بسخونتها الذكورية الطافحة عليه وعلى بنطاله المحترق!

والقهوة، للأسف، لم تجنّبنا هذا المصير البائس.

وكان المأمون، في خلافته السادسة، الموافقة للتحوّل النسجي الرابع بعد المئة وزعنفتين، قد اشتهى تلك القهوة، فبعث في طلبها خمسين من رجاله الأقوياء، تفرّقوا وانتشروا في أراضي الخلافة المنتاهية الأطراف، قالبين في أغراض الناس، متفرّسين في الوجوه، سعياً وراء تلك القهوة النادرة حصولها.

وجرت عادة الناس في تلك الزعانف الغابرة، أن يميّزوا بين المشروب الذكوري والمشروب الأنثوي. فالقهوة الفاسقة، كما سبق وأشرت، تعدّ من المشروبات الذكورية، نظراً لما تنطوي عليه من خلايا منيوية مسحوقة، قد اُستخلصت من عضو من أعضاء الغزّال المتهدّلة. فإنّ صفن هذا الحيوان، يا أنتم، ألا وهو مصدر ذاك المشروب المنيوي.

خمستعش دولار!

خدي يا مدام!

ثانك يو!

لكن رجال الخليفة لقوا مصيراً مجهولاً، وقد تم نقل أخبار ذبحهم - على يد بعض من حرّاس تلك القهوة المنتصبة دائماً - الى مسامع أمير المؤمنين. وأغمى عليه في الحال.

حرّاس القهوة هؤلاء، لعلمكم، هم طائفة من طوائف الفلول الزائدة، والمطاريد الحاقدة، المتبقّية من حملات الأمريكان البشعة على الهنود الحمر. وهم طائفة من الأشباح، انشقّت عن هؤلاء. وهم يرون الغيب، وبأسهم شديد.

الأخولوتل يركض، ويتسلّق الشجرة بلباقة وخفة. من فوق عرشه هذا، يرمي على الإنسان بسيل من حبات البندق. ثم يضحك. ودماغ الإنسان ينفلق نصفين.

وهذا قليل من كثير، جاء في كتاب من كتبهم الملتوية.

فقال البعض: إنه الفخّ.

وقالوا: إنها المصيدة، والشباك الطائلة، وقع فيها الكثير قبل القليل، والمؤمن قبل الكافر والعكس صحيح أيضاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق