17 مايو 2011

اجحظ مع الجاحظ

اجحظ مع الجاحظ *

لا يخفى عن السادة القرّاء أن العبد لله مسجوع اللسان، منثور البال، بصريّ الحسّ والإدراك، وبموجب هذه الأسباب أجد نفسي منجذباً انجذاباً شديداً نحو أبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني البصري الملقّب بالجاحظ، وهو من خيرة رجال الأمّة الذين أرسلتهم الينا الأقدار وكرّست أسماءهم على أبواب الأندلس وقندهار وإنّ في ذلك لعبرة لمن يحفظ اللسان ويكتم الأسرار ..

إني بهذه المناسبة أتذكّر رسالة كتبتها منذ نحو عشرة سنين وأنا غائص في المراحل الأولى من مدرسة الإنشاء والتلقين ، كان الأستاذ على ما أتذكر يسمّى فهد أو فهر أو فيروز ربما .. وكان دائم الذكر لخيانة اليهود لسيّدنا وتماديهم في الرياء والبطلان وتوغّلهم في السكة الغلط على حد تعبيره، كان يواظب على مثل هذه الأقوال نفس إصراره على ارتداء أفشخ الكرافاتات وأنفذ العطور مما أثار حوله الكثير من الشكوك والتساؤلات حيث قال البعض إنه من بهلوانات التلفاز أو يحاول أن يخفي روائخ البوتوجاز، لكن ما هذا إلا خساسة مني وقلّة أدب أن أذكر مثل هذه التفاصيل الملفّقة وإن كانت تساعد على تنشيط الحكي وتثبيط الملل وإنّ الشيء بالشيء يُذكر كما أقول دائماً فلا ضير في ذلك ولا يحزنون..

هي لعبة الذكر والذاكرة التي قادتني الى التفكّر في هذه الرسالة القديمة، المنسية بين أغلفة الكشاكيل المصفرّة هوامشها، أو مطروحة في كومة متصاعدة من قشور السفرجل وتفل القهوة ولحم الطلح وقطع الغيار، أو لعلها قُتلت في ظروف غامضة وألقيت في قارعة الطريق يتنكّر عليها المارّة والشحّاذون.. لكن الحقيقة خلاف ذلك كله، فلقد عثرت عليها مكرمشة مندسّة في أرشيف الجي-ميل عندي، ففتحتها وقرأتُ عنوانها:

بعض ما يلاحظ الطالب الياقظ من أدب واعظ في أعمال الجاحظ

الله؟ هتفتُ بدهشة وامتعاض، مثلما يهتفون في الأفلام المصرية القديمة بالضبط . الله؟ لكنها كما أتذكّرها تماماً، ركيكة الخط، غثّة العبارة فهي ثمرة التطلّع المراهق السابق لأوانه، ولعلّ أطرف ما يأتي في هذه الرسالة هو كلمة التوجيه التي أقول فيها:

اعلموا يا أيها الساعين وراء العلم والجارين وراء السلم

طبعا كل هذا على السبيل التنبيه والتبشير فالرسالة تضمّ مواعظ مهمّة وتعليمات مفيدة لا شكّ.. ولكن المفارقة الكبرى أنها تحتوي على وصف لكتاب " المحاسن والأضداد " والذي اكتشفت فيما بعد أن أمر نسبه الى الجاحظ خاطئ تماماً حيث يزعم معظم الباحثين اليوم انه أُقحم في متن نصوص أبي عثمان وهو غير منتبه لذلك، المهم، لا أدوّن اليوم من أجل هذه الرسالة وإنما لأجل الجحوظ ، وهو نتوء العين بما لا يتناسب ومعايير الجماليات الحديثة، مما يسفر على حالات تقزّز واغماء، ثم القبض على الجاني وإحالته الى البرزخ ونبذه من مجتمع البشر نبذاً تاماً .. تطرّقنا الى موضوع العين وبروزها من قبل لكن سنجد هنا تنويعات أخرى ، وأهمّها الإدّعاء بأن الجحوظ جدير بأن يكون لوناً جديداً من التجربة والحياة، وضرباً بديعاً من الكتابة وإنتاج المعرفة، فهو عبارة عن نظرة واسعة على الأحداث، الى جانب كونها موطن إثارة، ومصدر فتنة، وتحدٍّ لحدود الذات المتقوقعة في الأنا الصغيرة، المتخشّبة المتجمّدة في آفاقها الضيّقة ..

قد يشك البعض في صلاحية أمثال الجاحظ لأيامنا هذه، حيث أن الشباب في عصرنا الحديث قد نبذوا فكرة الجحوظ واتخذوا تقاليع أخرى عاداتٍ لهم، مثل الوقوف ساعات طويلة رأساً على عقب، أو الضرب في الرمل والنفث في العقد، أو ركوب الجمال الزرقاء، إلا أننا سنأتي ببرهان قاطع يفيد بأن لا تناقض بين ممارسة الجحوظ وبين تقاليع آخر الزمن هذه، بالعكس فإنّ ميزة الجحوظ باختصار أنه انفلات المقلتين من محجريهما المفروضين من قبل ما يسمّى بالجسد والوراثة والأسرة والضرورة لتكونا منتفختين متزعزعتين لا يردعهما رادع..

وعلى الرغم من أنّ مشروعنا هذا مرتبط وبشكل أساسي باسم الجاحظ، وهو الآن حفنة من الرماد والمخطوطات قد أدركها الفساد والتلف، إلا أننا لسنا هنا بصدد التأصيل، ولا إرجاع الأشياء الى جذورها، ولا إنعاش ما يسمّى بالتراث أو بعث الروح فيه، وإنّما ما نقوم به أقرب ما يكون الى عملية ترقيع، هي عبارة عن الحلّ والربط، ثم الفكّ والجمع ممّا يلقي شبكة فضفاضة من الوضوح على فرع من فروع الجحوظ ألا وهو الفرع الكتابي-التدويني.

ولهذا الفرع سمات أساسية أعرضها ههنا:

(أ) التقنية.

لما كان أبو عثمان وقبله عبد الحميد الكاتب قد درجوا على تأليف الرسائل كمساحة أدبية يبسطون فيها مواقفهم من هذا أو ذاك، ويتفنّنون في وصفهم للخلق فنوناً باهرة من السخرية والدعابة والمدح والمجون، ولما كانوا يعتمدون في ذلك علوماً عربية وتقنيات نثرية مثل السجع والصفع والبلاغة والإعراب، فمثلهم مدوّنو اليوم قد درجوا على إنشاء مدوّناتهم اعتماداً على تقنيات أخرى مثل الماك والهاك والطرقعة على الكيبورد.

ولقد وجد القليل من الآكاديميين – أبعد الله عنكم كأسهم – قد وجدوا في الفضاء الافتراضي أرضاً خصبة لخربشة أفكارهم، ودردشة آثارهم، وقشقشة أعمالهم وسرسعة نصالهم، وكلّ ذلك تبسّط فيه الأستاذ جراهام هرمان، الصديق القريب للفيلسوف الفرنسي برونو لاطور والذي فوجئت بخبر أنه يقطن حيّ الزمالك منذ حوالي عشرة سنين. كما أني فوجئت لما اكتشفت أن بعض الفلاسفة من الجنس الميتافيزيقي-الكلاسيكي هم من أحسن الكتّاب في المضمار الآكاديمي الغربي، ومنهم ايان هاكينغ فضلا عن هرمان وأتباعه، بينما أساتذة الأدب الأمريكي ما زالوا يضربونها فشنك، ويتمادون في التفتفة والغموض، وخير دليل على ذلك الأستاذة لورن برلنت. فهذه الحالة الأخيرة تثبت أن الكتابة التدوينية لا تساعد دائما في تحسين تقنيات الكتابة، لكننا نعلم أن سبب ذلك عدم إدراكها للمسالك الجحوظية. وما أدراك ما المسالك الجحوظية.

(ب) الشيء بالشيء يُذكر.

لم يكن للجاحظ مشروع تنظيري متكامل، لم يرقْ له أن يقوم بإنشاء مدرسة فكرية أو إيراث فلسفة منظّمة، لكن هذا لا يمنع أن أسلوب تفكيره وأُفْعُول تدبيره قد أثمرا فعلاً ثماراً من الحق والنور والمعرفة والغذاء – مع الملاحظة أن المعرفة هنا ليست بالضرورة من النوع الممسَك به، المقبوض عليه، إنما أقرب ما تكون الى اختلاجات خفيفة أعلى الحاجب، والتهابات غير ملحوظة في منطقة الأمعاء، أو حتى فقاعات تظهر أحياناً أثناء الغسيل، تتزبّد وتتطحلب ثم تنفجر بغتة مخلّفةً وراءها شيئاً من الحيرة، والتوقّف، ناهيك عن الطشت الطاهر، الطائل وجههك بلسانه الزفر.. وغير ذلك.

معرفة جسدية، نصّية بهائمية، سريعة المفعول، دائمة الأثر من حيث لا تحسّ!

وليكن شعارنا في هذه الفقرة: الشيء بالشيء يُذكر. وهو أمر لا يتطلّب تسلسل منطقي للأفكار، كما أنه لا يرجع ولا يعود الى صورة كبيرة، ولا يؤطّره إطار. وقد نقول: الإطار هو العدوّ، نلتقي به في الآخر وليس في الأول. لأن الشيء هو البداية، هو لحظة الانطلاق وإن كان مجهولاً، متبدّلاً، سريع المفعول ودائم الأثر. وسبب ذلك أنه مشتقّ من المشيئة، الإرادة، فهي الرغبة التي تولّد السعي، والشوق المتجسّد في لمعان الذهب والفضة والقناطير المقنطرة. الشيء بالشيء يذكر: السعي السائل، السيل الساعي.

والسيل رأس الأدب، فهو البذرة التي تولّد منها الأدب العربي أجمعه حيث قيل: حَطَّهُ السَيْلُ مِن علِ. وهي جملة نحفظها ونحافظ عليها حتى يومنا هذا. وقد قيل أيضا: بل بدايته مع كلمة "اقرأ". وإننا لنقرّ بذلك أيضاً، بما أن الأدب منشؤه الدعوة، والإغراء، والدخول في طوايا ممارسة تكنولوجية جديدة: من الأمّية الى القراءة، أو من النشر الورقي الى النشر الاكتروني.

ولعلّ أهمية السيل ترجع الى مسقط رأسه البصرة، والطابع الهندسي المعماري الفني الخاص بها والذي يتكوّن من قنوات تضاهي قنوات البندقية، فالمرء اذا أراد التنقّل فيها من مكان الى مكان استقلّ زورقاً صغيراً يحمله عبر الماء الى مقصده المنشود، ومن ثمّ ضرورة الإلمام بوسائل النقل البحرية وفنون الملاحة ونحو ذلك.

(ج) التحدّي.

وإن للتحدّي هنا فرعين: أمّا الفرع الأول فهو تحدّي الملل، وله طرق وجهات مختلفة قد نفصّلها في تدوينة أخرى. وأمّا الفرع الثاني، فهو يتمثّل في ميل الجاحظ نحو الكبرياء، وإثبات الأنا، وإبراز العين وإدّعاء العلم. ومن آي ذلك تحدّيه لشخص ما كتب اليه رسالة ذات يوم فقال فيها:

جعلت فداك، أين كان عبد الله بن هلال الحميري صديق إبليس من كردباش الهندي، وأين كان بقع منهما صالح المديبري، وأين عبيد مُج من البطيحي، وأين عبد الوارث من الهُجيمي، وأين أبو منصور المخاريقي من جرمي، وأين بامونة من حَسْدَهْ، وأين قشة اليهودي من كُشة، وما فصل ما بين الكهانة والشعبذة، وما فصل ما بين الحازي والعراف، وأين كان عزّي سلمة من سطيح الدئبي، وأين كان الأبلق الأسدي من رياح بن كهيلة، وأين كاهن سعد هذيم من حُليس الخطاط. وحدّثني عن ساحرة حفصة وساحرة عائشة أقتلتا بإقرار منهما بكيفية السحر؟ وحدثي عن صاحب جندب بن زهير باقرار قتله أم عن معرفة منه بمعنى السحر؟ وهل ثبت جعلت فداك أن النبي صلى الله عليه وسلّم سُحر في جُف طلعة ووضع تحت راعوفة البئر أم لا؟

وخبرني: ما البحرباي، وما البارباي، وما الكروريات، وما الخواتيم، وما المناديل والسعي والأمر الذي كان في خاتم سليمان، وما السكينة التي كانت في التابوت، فقد اختلف المفسّرون فيها وزعموا أنها كانت رأس هر. وما سعسف ياسينية، وما الفتل، وما التوجيه؟ وخبرني: ما تأويل الزمزمة، وما فعل المال الذي من أخذ منه ندم ومن لم يأخذ منه ندم. وخبرني عن قول الخليل في الوهم القديم؟

(من رسالة التربيع والتدوير)

الإجابة على هذه الأسئلة المتحدّية موجودة كلها في متن أعمال الجاحظ، فهو البهلوان المتنطط الممسك بشعلة النار المسروقة..

(د) وله سمة رابعة، وهي موضوع رسالة الدكتوراه التي نعدّها حالياً.

وليس هذه السمات مهمّة أو أساسية، إنما أقرب ما تكون الى سحابات عابرة، نفثتها ذات يوم من رأس السيجارة الطويلة، الطائلة بلسانها ما لا يطال، وإن في ذلك لعبرة لمن يعتبر، وذكرى لذوي الذاكرة والبال.

---


*وقد نسمّيه: التدوينة العابرة للقارات، اذ أننا بدأناها في أراضي أمريكا الواسعة ثم ختمناها في برّ مصر، وذلك بعد رحلة أحسن ما يقال فيها انها بهدلة، حيث اننا تعرّضنا لتعسّف شركات الطيران ومكائدها الخسيسة، إلا أننا فزنا بما لم نكن لنحلم اننا سنفوز بها ابدا: ركوب الخطوط الجوية السويرية، ولذلك تفصيل هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق