25 مايو 2011

ريبورتاج ثقافي

ريبورتاچ ثقافي

22 مايو/أيار 2011

ما كان منذ وقت قصير جداً مرتعاً للديناصورات المعطّرة، والديوك المخدّرة، وغيرها من الحيوانات الثقافية المرتزقة، هو ما وجدته اليوم مساحة من مساحات الثورة المصرية المستمرّة، وموقعاً من مواقعها الساخنة المتواصلة، فلقد انقرض كل من جابر عصفور وفاروق حسني وفيروز بحري (*) ليتركوا المجلس الأعلى للثقافة أرضاً خصبة للتغيير والانفتاح على إمكانيات جديدة للتبادل والتلاقي الفكريين، هذا ونحن ما زلنا مرتبكين مصدومين لرؤية للدكتور عماد أبو غازي يتبوّأ منصب وزير الثقافة، وهو الذي كان منذ حوالي أربع سنين يدرّسنا ويدرّبنا على فنون قراءة المخطوطات العربية القديمة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، نطالع الخربشات الغريبة ونفسّر الطلاسم العجيبة والبعض منا يدوب يفكّ الخطّ ، أمّا مسألة ارتقاءه الى المستوى الوزاري فهي خطوة مباركة إن شاء الله، المهم، ها نحن نعود الى 1 شارع الجبلاية لحضور مناقشة أدارها الأستاذ خالد فهمي، وشارك فيها كل من الأستاذ شريف يونس وبشير السباعي ومصطفى كمال السيد، وذلك بمناسبة صدور الترجمة العربية لكتاب الأستاذ تيموثي ميتشل المعنون: حكم الخبراء: مصر، التكنو – سياسة، الحداثة.

هذا الكتاب، والذي وصف الأستاذ خالد فهمي أمر ترجمته الى اللغة العربية "بالحدث التاريخي"، هو الثاني للأستاذ تيموثي ميتشل بعد كتابه استعمار مصر والذي تمّ ترجمته هو الآخر الى اللغة العربية في وقت سابق. ولكي نفهم أهمية هذا العمل الفكري "الدسم" ومكانته في الحياة الآكاديمية وغير الآكاديمية، يجدر بنا أن نتعرّض لبعض المساهمات النظرية الكبرى الواردة في النصّ والتي تأتي الى العالم العربي في وقت أقلّ ما يقال عنه إنه دسم.

_الناموسة والجاموسة وبعض ما جُمع من أخبار العرقسوسة_

ولعلّنا لا نخطئ في القول بأن ترجمة هذا الكتاب يمثّل الدخول الأول للمقاربات الفكرية المسمّاة "ما بعد الإنسانية" الى برّ مصر، والتي هي مجموعة هلامية من الاتجاهات الآكاديمية الحديثة ترتبط بأسماء مثل برونو لاطور، دونا حراوي، اسابيل ستنجرز، جاين بينيت، يوسي باريكا وغيرهم. وببساطة مخلّة قد نلخّص أهمية هذا التيّار الفكري الهلامي (نعم التيار يمكنه ان يكون هلاميا) بأنه يولي اهتماماً جاداً وعميقاً لفاعلية ممثّلين تاريخيين لا ينتمون بالضرورة الى فصيلة البشر، منهم الحيوانات والحشرات والأمراض والكيميائيات والمشاعر والخيالات والنباتات والأشياء " الجامدة ". وما أدراك ما الأشياء الجامدة. ومن آي ذلك في الفصل الأول من كتاب حكم الخبراء نجد الناموسة التي لا تقلّ أهمية عن نابليون المخصي في صناعة الأحداث وتحريك الأمور وزعزعة الاستقرار، فهي تحمل في منقارها عدوى ذات بأس شديد، جُنّد حولها أحدث التكنولوجيات الزراعية وأقوى الخطابات الطبية وأيأس السياسات الكولونيالية، وذلك ليس بتخطيط بشري واضح بقدر ما كان ردّاً على فاعلية هذه العدوى الخاصة، المحرّكة الفعّالة. وإن الله ليضرب مثلا ما بعوضة!

لذا فيحقّ للباحث ان يسأل: هل الناموسة تتكلّم؟، وهو سؤال يحاكي بشيء من المفارقة والدعابة الخفيفة ما طرحته الآكاديمية جيارتي سبيفاك حول المهمّشين والمستضعفين في الأرض وقدرتهم على التعبير عن أنفسهم والتأثير في كتابة التاريخ، اذ يبيّن الأستاذ تيموثي ميتشل، ومن خلال تتبّع دقيق لحركات هذه الحشرة ذات الجناحين، أن الفعل البشري ليس المحرّك الأساس لتقلّبات الكون، بل إنه فعل متشتّت، متوزّع، فعل جزئي وقابل للفشل، يقول ميتشل:


الأفراد قد يضمنون أحياناً السيطرة على عناصر بعينها، وقد يدّعون أيضاً أنهم يمثلون تلك العناصر [تصحيح من عندي] في العالم الاجتماعي، ولكن ما من فرد يتحكم فيها أو يُخضع العالم لنواياها. الأرجح أن تحدث سلسلة من المطالب والانجذابات والتفاعلات تتجاوز جميعا قبضة أو نية الفاعلين البشر المشتركين فيها. فالفاعلية والنية البشريتان منتجان جزئيان وغير كاملين لهذه التفاعلات. ويعني عدم الاكتمال هذا، كما سنرى، أنه لا يوجد خط وحيد يفصل البشري عن غير البشري، أو النوايا والخطط عن عالم-الموضوع الذي تحيل اليه هذه النوايا والخطط. (ص 54)


وعلينا أن نقرّ بأن ما يقدّمه هذا الكتاب ليس مجرّد تنويع آخر على الثنائية القديمة – مخيّر / مسيّر – في تفسير أفعال الإنسان وتحديدها، بالعكس فهو يدخل بنا الى أبعاد وجوانب أخرى للفاعلية التي – وهو الأهمّ – لن تتّضح إلا بعد عملية طويلة فيها من البحث والقراءة والرسم والاختبار ما يستغرق سنين من العمل الدؤوب، وهو ما يقدّمه ميتشل هنا. ذلك أن الفاعلية – بشرية كانت أم غير بشرية – لا يحكمها قانون واحد أو نظرية واحدة، إنما تبدأ كل مرّة بصفتها سؤال مفتوح، مفعم بالصدف والمفاجآت. وبالإضافة الى ذلك، فإنّ هذه الصورة التي يرسمها ميتشل عن الفاعلية، وإن لم تكن جديدة تماماً فهي نادرة الحدوث في الدراسات الشرق-أوسطية سواء في الجامعات الغربية أو العربية، نظراً لتولّعها بالإنسان الفاعل العبقري العظيم، صانع التاريخ الذي سجد له هيجيل وأتباعه المصفّقون.

_العقل المدبّر_

كنت أتساءل في الفترة الأخيرة، وبينما أنا منهمك في قراءة أمثال لاطور وحراوي وبينيت، ماذا لو تُرجم هؤلاء الى اللغة العربية، كيف سيتمّ تلقّيهم وبأي شكل سيتمّ قراءتهم؟ وهذه مسألة أخرى، تهمّني أنا شخصيا بصفتي مستشرق من الطراز المستغرب – وما أدراك ما الطراز المستغرب – ونرجع اليها في وقت لاحق اذا ما شاءت الظروف. لكن أكتفي بالقول هنا أني اندهشت قليلاً عندما سمعت بترجمة الكتاب المذكور الى اللسان العربي المبين، وفي هذا الوقت بالذات، اذ أننا في الأوقات الثورية كثيراً ما نبحث عن الفعل البشري بامتياز، ونبتغي الوصول الى ما يسمى بالعقول المدبّرة، واليد الخفية، والمحرّكين السياسيين، ناهيك عن تلك الاتهامات الباطلة بالعمالة والأجندات الخاصة. فهل يعقل أن نقبل كتاباً يذكّرنا بدور الناموسة، والجاموسة، وغيرهما من العوامل الفعّالة في صناعة التاريخ؟ ربما. لكن أرى أن ميزة هذا الكتاب أنه يضمّ تيّارات فكرية متعدّدة، فإذا كانت الفصول الأولى تهتمّ بمسائل الفاعلية وبناء الحقائق العلمية ونشوء أنظمة اقتصادية جديدة، فهناك فصول أخرى تتطرّق الى مسألة "الفلّاح" واختراعه بل وإعادة اختراعه، وهي فصول تبدو وكأنها تنتمي الى مرحلة سابقة من دراسات ما بعد الكولونيالية، الى جانب تقديمها قصّة تحرّي شيّقة تتتبّع خطوات الجواسيس وعلماء الإنسان العنصريين.

كما أكّد الأستاذ خالد فهمي أن هذا الكتاب – بخلاف كتب كثيرة تصدر عن الجامعات المصرية بما فيها من الجامعة الأمريكة ذات نفسها – يتميّز بأنه "ينتج معرفة". وقوله هذا – الذي أظنني أتفق معه بصورة عامة – أعادني الى سؤالي الأول عن مكان كتاب ميتشل بين المثقّفين في مصر: من هم جمهوره، وكيف يكون تلقّيه؟ وقد نستنبط من قول الأستاذ فهمي، وبحقّ، أن هذا الجمهور وهذا التلقّي لن يكونا في الجامعات المصرية. لن يقرأه جابر عصفور، ولن يقرأه مرتزقة الحزب الوطني المتمسّكين بكراسيهم في كافّة المؤسسات التعليمية. لكنه نسي أن يقول أن القرّاء الحقيقيين لمثل هذا الكتاب – بل ولكتب أخرى من أعمال الأستاذ فهمي نفسه – هم كائنات في الفضاء الافتراضي، لا يقرأون فقط، بل ينتجون معرفة ملموسة سواءاً من الجنس الكانطي أو الجنس الجحوظي. إلا أن الجامعات – الغربية هذه المرة – لا تعرف قراءة النهضة اليكترونية، ولا تدرك الجنس الجحوطي.

_طقوس الإشارات والتحوّلات_

وأرى أن أختتم مقالي هذا ببعض الملاحظات الجانبية عن الندوة وما خلّفته في سلّتي من ثمار متدلّية مثل: السفرجل. وفاكهة الزنزلخت. ولحم الطلح. وبذرة الجعضيض. ومن هذه الثمار أيضاً: ثمرة الردح المتبادل بين الدكتور بشير السباعي والدكتور مصطفى كمال السيّد، حيث تبادلا الاثنان كلمات مخجلة لن أذكرها هنا لتمسّكي الشديد بمبادئ العفّة والكرامة والتقشّف والحياء. كما أننا سمعنا بعض الأسئلة الجوفاء تنطلق من حناجر عدد من الحاضرين، إلا أن المناقشة تم مقاطعتها بعد إطلاق 3 منها فقط، دارت كلّها حول نقاط جانبية سخيفة عن ترجمة الأسماء الأجنبية. لكننا فرحنا أخيراً للقاء الأستاذ خالد فهمي، والذي وجدناه طلق المحيّا، لطيف المعشر، طويل البال والأناة حيث أنه أدار المناقشة بهدوء واتّزان، مفسّراً الأجزاء الأكثر سخونة من الكتاب بروح تعليمية حقيقية نادراً ما نجدها بين كبار الآكاديميين أمثاله.


وأكتب هذا البوست هارباً الى مدينة الإسكندرية، ثغر البلاد، أرض كلّها عالبحري، لكي آخذ بعض النفس، بعيداً عن أجواء العاصمة المختنقة حيناً، والدسمة حيناً آخر!

---

(*) فيروز بحري: هو احدى الشخصيات الكبرى الواردة في رواية حكايات الخبيئة لجمال الغيطاني. وأوجه الشبه بينه وبين الوزير الفنّان كثيرة بحيث لا تترك مجالاً للشك.

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف8:28 ص

    لا يمكن ان يتناول احد مثل هذة المواضيع بهذا الشكل الهزلى، و كان حرى بك ان تقوم بنقد موضوعى للكتاب بدلاً من الإستهزاء الطفولى الذى لجأت إليه

    ردحذف
  2. لا يمكن ان يتناول أحد مثل هذه البوستات بهذا الشكل الجدي، وكان حري بك أنت يا أستاذ أن ترى الهزل في الموضوع وترى الجد فيه أيضاً، وإن لم تقدر على هذا فإنه حري بك أن توضح أكثر

    وشكراً لمرورك هنا فإني استمتع بتقيؤك اللغوي هذا

    ردحذف