25 مايو 2011

ريبورتاج ثقافي

ريبورتاچ ثقافي

22 مايو/أيار 2011

ما كان منذ وقت قصير جداً مرتعاً للديناصورات المعطّرة، والديوك المخدّرة، وغيرها من الحيوانات الثقافية المرتزقة، هو ما وجدته اليوم مساحة من مساحات الثورة المصرية المستمرّة، وموقعاً من مواقعها الساخنة المتواصلة، فلقد انقرض كل من جابر عصفور وفاروق حسني وفيروز بحري (*) ليتركوا المجلس الأعلى للثقافة أرضاً خصبة للتغيير والانفتاح على إمكانيات جديدة للتبادل والتلاقي الفكريين، هذا ونحن ما زلنا مرتبكين مصدومين لرؤية للدكتور عماد أبو غازي يتبوّأ منصب وزير الثقافة، وهو الذي كان منذ حوالي أربع سنين يدرّسنا ويدرّبنا على فنون قراءة المخطوطات العربية القديمة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، نطالع الخربشات الغريبة ونفسّر الطلاسم العجيبة والبعض منا يدوب يفكّ الخطّ ، أمّا مسألة ارتقاءه الى المستوى الوزاري فهي خطوة مباركة إن شاء الله، المهم، ها نحن نعود الى 1 شارع الجبلاية لحضور مناقشة أدارها الأستاذ خالد فهمي، وشارك فيها كل من الأستاذ شريف يونس وبشير السباعي ومصطفى كمال السيد، وذلك بمناسبة صدور الترجمة العربية لكتاب الأستاذ تيموثي ميتشل المعنون: حكم الخبراء: مصر، التكنو – سياسة، الحداثة.

هذا الكتاب، والذي وصف الأستاذ خالد فهمي أمر ترجمته الى اللغة العربية "بالحدث التاريخي"، هو الثاني للأستاذ تيموثي ميتشل بعد كتابه استعمار مصر والذي تمّ ترجمته هو الآخر الى اللغة العربية في وقت سابق. ولكي نفهم أهمية هذا العمل الفكري "الدسم" ومكانته في الحياة الآكاديمية وغير الآكاديمية، يجدر بنا أن نتعرّض لبعض المساهمات النظرية الكبرى الواردة في النصّ والتي تأتي الى العالم العربي في وقت أقلّ ما يقال عنه إنه دسم.

_الناموسة والجاموسة وبعض ما جُمع من أخبار العرقسوسة_

ولعلّنا لا نخطئ في القول بأن ترجمة هذا الكتاب يمثّل الدخول الأول للمقاربات الفكرية المسمّاة "ما بعد الإنسانية" الى برّ مصر، والتي هي مجموعة هلامية من الاتجاهات الآكاديمية الحديثة ترتبط بأسماء مثل برونو لاطور، دونا حراوي، اسابيل ستنجرز، جاين بينيت، يوسي باريكا وغيرهم. وببساطة مخلّة قد نلخّص أهمية هذا التيّار الفكري الهلامي (نعم التيار يمكنه ان يكون هلاميا) بأنه يولي اهتماماً جاداً وعميقاً لفاعلية ممثّلين تاريخيين لا ينتمون بالضرورة الى فصيلة البشر، منهم الحيوانات والحشرات والأمراض والكيميائيات والمشاعر والخيالات والنباتات والأشياء " الجامدة ". وما أدراك ما الأشياء الجامدة. ومن آي ذلك في الفصل الأول من كتاب حكم الخبراء نجد الناموسة التي لا تقلّ أهمية عن نابليون المخصي في صناعة الأحداث وتحريك الأمور وزعزعة الاستقرار، فهي تحمل في منقارها عدوى ذات بأس شديد، جُنّد حولها أحدث التكنولوجيات الزراعية وأقوى الخطابات الطبية وأيأس السياسات الكولونيالية، وذلك ليس بتخطيط بشري واضح بقدر ما كان ردّاً على فاعلية هذه العدوى الخاصة، المحرّكة الفعّالة. وإن الله ليضرب مثلا ما بعوضة!

لذا فيحقّ للباحث ان يسأل: هل الناموسة تتكلّم؟، وهو سؤال يحاكي بشيء من المفارقة والدعابة الخفيفة ما طرحته الآكاديمية جيارتي سبيفاك حول المهمّشين والمستضعفين في الأرض وقدرتهم على التعبير عن أنفسهم والتأثير في كتابة التاريخ، اذ يبيّن الأستاذ تيموثي ميتشل، ومن خلال تتبّع دقيق لحركات هذه الحشرة ذات الجناحين، أن الفعل البشري ليس المحرّك الأساس لتقلّبات الكون، بل إنه فعل متشتّت، متوزّع، فعل جزئي وقابل للفشل، يقول ميتشل:


الأفراد قد يضمنون أحياناً السيطرة على عناصر بعينها، وقد يدّعون أيضاً أنهم يمثلون تلك العناصر [تصحيح من عندي] في العالم الاجتماعي، ولكن ما من فرد يتحكم فيها أو يُخضع العالم لنواياها. الأرجح أن تحدث سلسلة من المطالب والانجذابات والتفاعلات تتجاوز جميعا قبضة أو نية الفاعلين البشر المشتركين فيها. فالفاعلية والنية البشريتان منتجان جزئيان وغير كاملين لهذه التفاعلات. ويعني عدم الاكتمال هذا، كما سنرى، أنه لا يوجد خط وحيد يفصل البشري عن غير البشري، أو النوايا والخطط عن عالم-الموضوع الذي تحيل اليه هذه النوايا والخطط. (ص 54)


وعلينا أن نقرّ بأن ما يقدّمه هذا الكتاب ليس مجرّد تنويع آخر على الثنائية القديمة – مخيّر / مسيّر – في تفسير أفعال الإنسان وتحديدها، بالعكس فهو يدخل بنا الى أبعاد وجوانب أخرى للفاعلية التي – وهو الأهمّ – لن تتّضح إلا بعد عملية طويلة فيها من البحث والقراءة والرسم والاختبار ما يستغرق سنين من العمل الدؤوب، وهو ما يقدّمه ميتشل هنا. ذلك أن الفاعلية – بشرية كانت أم غير بشرية – لا يحكمها قانون واحد أو نظرية واحدة، إنما تبدأ كل مرّة بصفتها سؤال مفتوح، مفعم بالصدف والمفاجآت. وبالإضافة الى ذلك، فإنّ هذه الصورة التي يرسمها ميتشل عن الفاعلية، وإن لم تكن جديدة تماماً فهي نادرة الحدوث في الدراسات الشرق-أوسطية سواء في الجامعات الغربية أو العربية، نظراً لتولّعها بالإنسان الفاعل العبقري العظيم، صانع التاريخ الذي سجد له هيجيل وأتباعه المصفّقون.

_العقل المدبّر_

كنت أتساءل في الفترة الأخيرة، وبينما أنا منهمك في قراءة أمثال لاطور وحراوي وبينيت، ماذا لو تُرجم هؤلاء الى اللغة العربية، كيف سيتمّ تلقّيهم وبأي شكل سيتمّ قراءتهم؟ وهذه مسألة أخرى، تهمّني أنا شخصيا بصفتي مستشرق من الطراز المستغرب – وما أدراك ما الطراز المستغرب – ونرجع اليها في وقت لاحق اذا ما شاءت الظروف. لكن أكتفي بالقول هنا أني اندهشت قليلاً عندما سمعت بترجمة الكتاب المذكور الى اللسان العربي المبين، وفي هذا الوقت بالذات، اذ أننا في الأوقات الثورية كثيراً ما نبحث عن الفعل البشري بامتياز، ونبتغي الوصول الى ما يسمى بالعقول المدبّرة، واليد الخفية، والمحرّكين السياسيين، ناهيك عن تلك الاتهامات الباطلة بالعمالة والأجندات الخاصة. فهل يعقل أن نقبل كتاباً يذكّرنا بدور الناموسة، والجاموسة، وغيرهما من العوامل الفعّالة في صناعة التاريخ؟ ربما. لكن أرى أن ميزة هذا الكتاب أنه يضمّ تيّارات فكرية متعدّدة، فإذا كانت الفصول الأولى تهتمّ بمسائل الفاعلية وبناء الحقائق العلمية ونشوء أنظمة اقتصادية جديدة، فهناك فصول أخرى تتطرّق الى مسألة "الفلّاح" واختراعه بل وإعادة اختراعه، وهي فصول تبدو وكأنها تنتمي الى مرحلة سابقة من دراسات ما بعد الكولونيالية، الى جانب تقديمها قصّة تحرّي شيّقة تتتبّع خطوات الجواسيس وعلماء الإنسان العنصريين.

كما أكّد الأستاذ خالد فهمي أن هذا الكتاب – بخلاف كتب كثيرة تصدر عن الجامعات المصرية بما فيها من الجامعة الأمريكة ذات نفسها – يتميّز بأنه "ينتج معرفة". وقوله هذا – الذي أظنني أتفق معه بصورة عامة – أعادني الى سؤالي الأول عن مكان كتاب ميتشل بين المثقّفين في مصر: من هم جمهوره، وكيف يكون تلقّيه؟ وقد نستنبط من قول الأستاذ فهمي، وبحقّ، أن هذا الجمهور وهذا التلقّي لن يكونا في الجامعات المصرية. لن يقرأه جابر عصفور، ولن يقرأه مرتزقة الحزب الوطني المتمسّكين بكراسيهم في كافّة المؤسسات التعليمية. لكنه نسي أن يقول أن القرّاء الحقيقيين لمثل هذا الكتاب – بل ولكتب أخرى من أعمال الأستاذ فهمي نفسه – هم كائنات في الفضاء الافتراضي، لا يقرأون فقط، بل ينتجون معرفة ملموسة سواءاً من الجنس الكانطي أو الجنس الجحوظي. إلا أن الجامعات – الغربية هذه المرة – لا تعرف قراءة النهضة اليكترونية، ولا تدرك الجنس الجحوطي.

_طقوس الإشارات والتحوّلات_

وأرى أن أختتم مقالي هذا ببعض الملاحظات الجانبية عن الندوة وما خلّفته في سلّتي من ثمار متدلّية مثل: السفرجل. وفاكهة الزنزلخت. ولحم الطلح. وبذرة الجعضيض. ومن هذه الثمار أيضاً: ثمرة الردح المتبادل بين الدكتور بشير السباعي والدكتور مصطفى كمال السيّد، حيث تبادلا الاثنان كلمات مخجلة لن أذكرها هنا لتمسّكي الشديد بمبادئ العفّة والكرامة والتقشّف والحياء. كما أننا سمعنا بعض الأسئلة الجوفاء تنطلق من حناجر عدد من الحاضرين، إلا أن المناقشة تم مقاطعتها بعد إطلاق 3 منها فقط، دارت كلّها حول نقاط جانبية سخيفة عن ترجمة الأسماء الأجنبية. لكننا فرحنا أخيراً للقاء الأستاذ خالد فهمي، والذي وجدناه طلق المحيّا، لطيف المعشر، طويل البال والأناة حيث أنه أدار المناقشة بهدوء واتّزان، مفسّراً الأجزاء الأكثر سخونة من الكتاب بروح تعليمية حقيقية نادراً ما نجدها بين كبار الآكاديميين أمثاله.


وأكتب هذا البوست هارباً الى مدينة الإسكندرية، ثغر البلاد، أرض كلّها عالبحري، لكي آخذ بعض النفس، بعيداً عن أجواء العاصمة المختنقة حيناً، والدسمة حيناً آخر!

---

(*) فيروز بحري: هو احدى الشخصيات الكبرى الواردة في رواية حكايات الخبيئة لجمال الغيطاني. وأوجه الشبه بينه وبين الوزير الفنّان كثيرة بحيث لا تترك مجالاً للشك.

17 مايو 2011

اجحظ مع الجاحظ

اجحظ مع الجاحظ *

لا يخفى عن السادة القرّاء أن العبد لله مسجوع اللسان، منثور البال، بصريّ الحسّ والإدراك، وبموجب هذه الأسباب أجد نفسي منجذباً انجذاباً شديداً نحو أبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني البصري الملقّب بالجاحظ، وهو من خيرة رجال الأمّة الذين أرسلتهم الينا الأقدار وكرّست أسماءهم على أبواب الأندلس وقندهار وإنّ في ذلك لعبرة لمن يحفظ اللسان ويكتم الأسرار ..

إني بهذه المناسبة أتذكّر رسالة كتبتها منذ نحو عشرة سنين وأنا غائص في المراحل الأولى من مدرسة الإنشاء والتلقين ، كان الأستاذ على ما أتذكر يسمّى فهد أو فهر أو فيروز ربما .. وكان دائم الذكر لخيانة اليهود لسيّدنا وتماديهم في الرياء والبطلان وتوغّلهم في السكة الغلط على حد تعبيره، كان يواظب على مثل هذه الأقوال نفس إصراره على ارتداء أفشخ الكرافاتات وأنفذ العطور مما أثار حوله الكثير من الشكوك والتساؤلات حيث قال البعض إنه من بهلوانات التلفاز أو يحاول أن يخفي روائخ البوتوجاز، لكن ما هذا إلا خساسة مني وقلّة أدب أن أذكر مثل هذه التفاصيل الملفّقة وإن كانت تساعد على تنشيط الحكي وتثبيط الملل وإنّ الشيء بالشيء يُذكر كما أقول دائماً فلا ضير في ذلك ولا يحزنون..

هي لعبة الذكر والذاكرة التي قادتني الى التفكّر في هذه الرسالة القديمة، المنسية بين أغلفة الكشاكيل المصفرّة هوامشها، أو مطروحة في كومة متصاعدة من قشور السفرجل وتفل القهوة ولحم الطلح وقطع الغيار، أو لعلها قُتلت في ظروف غامضة وألقيت في قارعة الطريق يتنكّر عليها المارّة والشحّاذون.. لكن الحقيقة خلاف ذلك كله، فلقد عثرت عليها مكرمشة مندسّة في أرشيف الجي-ميل عندي، ففتحتها وقرأتُ عنوانها:

بعض ما يلاحظ الطالب الياقظ من أدب واعظ في أعمال الجاحظ

الله؟ هتفتُ بدهشة وامتعاض، مثلما يهتفون في الأفلام المصرية القديمة بالضبط . الله؟ لكنها كما أتذكّرها تماماً، ركيكة الخط، غثّة العبارة فهي ثمرة التطلّع المراهق السابق لأوانه، ولعلّ أطرف ما يأتي في هذه الرسالة هو كلمة التوجيه التي أقول فيها:

اعلموا يا أيها الساعين وراء العلم والجارين وراء السلم

طبعا كل هذا على السبيل التنبيه والتبشير فالرسالة تضمّ مواعظ مهمّة وتعليمات مفيدة لا شكّ.. ولكن المفارقة الكبرى أنها تحتوي على وصف لكتاب " المحاسن والأضداد " والذي اكتشفت فيما بعد أن أمر نسبه الى الجاحظ خاطئ تماماً حيث يزعم معظم الباحثين اليوم انه أُقحم في متن نصوص أبي عثمان وهو غير منتبه لذلك، المهم، لا أدوّن اليوم من أجل هذه الرسالة وإنما لأجل الجحوظ ، وهو نتوء العين بما لا يتناسب ومعايير الجماليات الحديثة، مما يسفر على حالات تقزّز واغماء، ثم القبض على الجاني وإحالته الى البرزخ ونبذه من مجتمع البشر نبذاً تاماً .. تطرّقنا الى موضوع العين وبروزها من قبل لكن سنجد هنا تنويعات أخرى ، وأهمّها الإدّعاء بأن الجحوظ جدير بأن يكون لوناً جديداً من التجربة والحياة، وضرباً بديعاً من الكتابة وإنتاج المعرفة، فهو عبارة عن نظرة واسعة على الأحداث، الى جانب كونها موطن إثارة، ومصدر فتنة، وتحدٍّ لحدود الذات المتقوقعة في الأنا الصغيرة، المتخشّبة المتجمّدة في آفاقها الضيّقة ..

قد يشك البعض في صلاحية أمثال الجاحظ لأيامنا هذه، حيث أن الشباب في عصرنا الحديث قد نبذوا فكرة الجحوظ واتخذوا تقاليع أخرى عاداتٍ لهم، مثل الوقوف ساعات طويلة رأساً على عقب، أو الضرب في الرمل والنفث في العقد، أو ركوب الجمال الزرقاء، إلا أننا سنأتي ببرهان قاطع يفيد بأن لا تناقض بين ممارسة الجحوظ وبين تقاليع آخر الزمن هذه، بالعكس فإنّ ميزة الجحوظ باختصار أنه انفلات المقلتين من محجريهما المفروضين من قبل ما يسمّى بالجسد والوراثة والأسرة والضرورة لتكونا منتفختين متزعزعتين لا يردعهما رادع..

وعلى الرغم من أنّ مشروعنا هذا مرتبط وبشكل أساسي باسم الجاحظ، وهو الآن حفنة من الرماد والمخطوطات قد أدركها الفساد والتلف، إلا أننا لسنا هنا بصدد التأصيل، ولا إرجاع الأشياء الى جذورها، ولا إنعاش ما يسمّى بالتراث أو بعث الروح فيه، وإنّما ما نقوم به أقرب ما يكون الى عملية ترقيع، هي عبارة عن الحلّ والربط، ثم الفكّ والجمع ممّا يلقي شبكة فضفاضة من الوضوح على فرع من فروع الجحوظ ألا وهو الفرع الكتابي-التدويني.

ولهذا الفرع سمات أساسية أعرضها ههنا:

(أ) التقنية.

لما كان أبو عثمان وقبله عبد الحميد الكاتب قد درجوا على تأليف الرسائل كمساحة أدبية يبسطون فيها مواقفهم من هذا أو ذاك، ويتفنّنون في وصفهم للخلق فنوناً باهرة من السخرية والدعابة والمدح والمجون، ولما كانوا يعتمدون في ذلك علوماً عربية وتقنيات نثرية مثل السجع والصفع والبلاغة والإعراب، فمثلهم مدوّنو اليوم قد درجوا على إنشاء مدوّناتهم اعتماداً على تقنيات أخرى مثل الماك والهاك والطرقعة على الكيبورد.

ولقد وجد القليل من الآكاديميين – أبعد الله عنكم كأسهم – قد وجدوا في الفضاء الافتراضي أرضاً خصبة لخربشة أفكارهم، ودردشة آثارهم، وقشقشة أعمالهم وسرسعة نصالهم، وكلّ ذلك تبسّط فيه الأستاذ جراهام هرمان، الصديق القريب للفيلسوف الفرنسي برونو لاطور والذي فوجئت بخبر أنه يقطن حيّ الزمالك منذ حوالي عشرة سنين. كما أني فوجئت لما اكتشفت أن بعض الفلاسفة من الجنس الميتافيزيقي-الكلاسيكي هم من أحسن الكتّاب في المضمار الآكاديمي الغربي، ومنهم ايان هاكينغ فضلا عن هرمان وأتباعه، بينما أساتذة الأدب الأمريكي ما زالوا يضربونها فشنك، ويتمادون في التفتفة والغموض، وخير دليل على ذلك الأستاذة لورن برلنت. فهذه الحالة الأخيرة تثبت أن الكتابة التدوينية لا تساعد دائما في تحسين تقنيات الكتابة، لكننا نعلم أن سبب ذلك عدم إدراكها للمسالك الجحوظية. وما أدراك ما المسالك الجحوظية.

(ب) الشيء بالشيء يُذكر.

لم يكن للجاحظ مشروع تنظيري متكامل، لم يرقْ له أن يقوم بإنشاء مدرسة فكرية أو إيراث فلسفة منظّمة، لكن هذا لا يمنع أن أسلوب تفكيره وأُفْعُول تدبيره قد أثمرا فعلاً ثماراً من الحق والنور والمعرفة والغذاء – مع الملاحظة أن المعرفة هنا ليست بالضرورة من النوع الممسَك به، المقبوض عليه، إنما أقرب ما تكون الى اختلاجات خفيفة أعلى الحاجب، والتهابات غير ملحوظة في منطقة الأمعاء، أو حتى فقاعات تظهر أحياناً أثناء الغسيل، تتزبّد وتتطحلب ثم تنفجر بغتة مخلّفةً وراءها شيئاً من الحيرة، والتوقّف، ناهيك عن الطشت الطاهر، الطائل وجههك بلسانه الزفر.. وغير ذلك.

معرفة جسدية، نصّية بهائمية، سريعة المفعول، دائمة الأثر من حيث لا تحسّ!

وليكن شعارنا في هذه الفقرة: الشيء بالشيء يُذكر. وهو أمر لا يتطلّب تسلسل منطقي للأفكار، كما أنه لا يرجع ولا يعود الى صورة كبيرة، ولا يؤطّره إطار. وقد نقول: الإطار هو العدوّ، نلتقي به في الآخر وليس في الأول. لأن الشيء هو البداية، هو لحظة الانطلاق وإن كان مجهولاً، متبدّلاً، سريع المفعول ودائم الأثر. وسبب ذلك أنه مشتقّ من المشيئة، الإرادة، فهي الرغبة التي تولّد السعي، والشوق المتجسّد في لمعان الذهب والفضة والقناطير المقنطرة. الشيء بالشيء يذكر: السعي السائل، السيل الساعي.

والسيل رأس الأدب، فهو البذرة التي تولّد منها الأدب العربي أجمعه حيث قيل: حَطَّهُ السَيْلُ مِن علِ. وهي جملة نحفظها ونحافظ عليها حتى يومنا هذا. وقد قيل أيضا: بل بدايته مع كلمة "اقرأ". وإننا لنقرّ بذلك أيضاً، بما أن الأدب منشؤه الدعوة، والإغراء، والدخول في طوايا ممارسة تكنولوجية جديدة: من الأمّية الى القراءة، أو من النشر الورقي الى النشر الاكتروني.

ولعلّ أهمية السيل ترجع الى مسقط رأسه البصرة، والطابع الهندسي المعماري الفني الخاص بها والذي يتكوّن من قنوات تضاهي قنوات البندقية، فالمرء اذا أراد التنقّل فيها من مكان الى مكان استقلّ زورقاً صغيراً يحمله عبر الماء الى مقصده المنشود، ومن ثمّ ضرورة الإلمام بوسائل النقل البحرية وفنون الملاحة ونحو ذلك.

(ج) التحدّي.

وإن للتحدّي هنا فرعين: أمّا الفرع الأول فهو تحدّي الملل، وله طرق وجهات مختلفة قد نفصّلها في تدوينة أخرى. وأمّا الفرع الثاني، فهو يتمثّل في ميل الجاحظ نحو الكبرياء، وإثبات الأنا، وإبراز العين وإدّعاء العلم. ومن آي ذلك تحدّيه لشخص ما كتب اليه رسالة ذات يوم فقال فيها:

جعلت فداك، أين كان عبد الله بن هلال الحميري صديق إبليس من كردباش الهندي، وأين كان بقع منهما صالح المديبري، وأين عبيد مُج من البطيحي، وأين عبد الوارث من الهُجيمي، وأين أبو منصور المخاريقي من جرمي، وأين بامونة من حَسْدَهْ، وأين قشة اليهودي من كُشة، وما فصل ما بين الكهانة والشعبذة، وما فصل ما بين الحازي والعراف، وأين كان عزّي سلمة من سطيح الدئبي، وأين كان الأبلق الأسدي من رياح بن كهيلة، وأين كاهن سعد هذيم من حُليس الخطاط. وحدّثني عن ساحرة حفصة وساحرة عائشة أقتلتا بإقرار منهما بكيفية السحر؟ وحدثي عن صاحب جندب بن زهير باقرار قتله أم عن معرفة منه بمعنى السحر؟ وهل ثبت جعلت فداك أن النبي صلى الله عليه وسلّم سُحر في جُف طلعة ووضع تحت راعوفة البئر أم لا؟

وخبرني: ما البحرباي، وما البارباي، وما الكروريات، وما الخواتيم، وما المناديل والسعي والأمر الذي كان في خاتم سليمان، وما السكينة التي كانت في التابوت، فقد اختلف المفسّرون فيها وزعموا أنها كانت رأس هر. وما سعسف ياسينية، وما الفتل، وما التوجيه؟ وخبرني: ما تأويل الزمزمة، وما فعل المال الذي من أخذ منه ندم ومن لم يأخذ منه ندم. وخبرني عن قول الخليل في الوهم القديم؟

(من رسالة التربيع والتدوير)

الإجابة على هذه الأسئلة المتحدّية موجودة كلها في متن أعمال الجاحظ، فهو البهلوان المتنطط الممسك بشعلة النار المسروقة..

(د) وله سمة رابعة، وهي موضوع رسالة الدكتوراه التي نعدّها حالياً.

وليس هذه السمات مهمّة أو أساسية، إنما أقرب ما تكون الى سحابات عابرة، نفثتها ذات يوم من رأس السيجارة الطويلة، الطائلة بلسانها ما لا يطال، وإن في ذلك لعبرة لمن يعتبر، وذكرى لذوي الذاكرة والبال.

---


*وقد نسمّيه: التدوينة العابرة للقارات، اذ أننا بدأناها في أراضي أمريكا الواسعة ثم ختمناها في برّ مصر، وذلك بعد رحلة أحسن ما يقال فيها انها بهدلة، حيث اننا تعرّضنا لتعسّف شركات الطيران ومكائدها الخسيسة، إلا أننا فزنا بما لم نكن لنحلم اننا سنفوز بها ابدا: ركوب الخطوط الجوية السويرية، ولذلك تفصيل هنا