27 مايو 2010

غرضه الهجاء: الخطوة الثامنة

غرضه الهجاء: الخطوة الثامنة

قرص الشمس يتبجّح في كبد السماء، غمامة بيضاء تلتفّ حول بجعة بيضاء هي الأخرى، تأكلها وتمرّ، وأنا أمشي الهويدى على الرصيف في ظلّ مكتبة هارولد وشنطن. الشوارع شبه مقفرة، إلا أن ثمّة طنيناً مرحاً يتصاعد من حفلة جاز بعيدة، يتناهى الى أذنيّ.

أطلق صفيراً خفيفاً، يكاد لا يُلحظ، بينما أتذوّق وأستعذب بقايا القهوة على لساني.

وإذا بشيء لزج، رذاذ خفيف يتساقط على قبّعتي. يستبدّ بي الفضول، فآخذ أتحسّسه بيدي وأعرف أنّه مادّة رغوية حامضة، كأنها صابون قويّ..

أخلع القبّعة في الحال فأرميها بعيداً وهي تشتعل ناراً. تصطدم بعامود نور فتنفجر مرّة واحدة مخلّفة وراءها قطع قماش محروقة تتطاير في الهواء. أضع قبّعة ثانية، أحتفظ بها على الدوام لمثل هذه الظروف المباغتة، وأتطلّع الى أعلى:

غرغول أخضر صدئ، يتفصّد الزبد من فمه، يجلس فوق سطوح المكتبة الشاهقة.

هذا المبنى المهيب يصعب تجاهله. يمتدّ عشرين طابقاً الى أعلى، بالإضافة الى ثلاثة وخمسين طابقاً تحت الأرض. قليلٌ مَن سوّلت له نفسه بسبر أغواره وكشف أعماقه، التي يروى عنها أنها عبارة عن متاهات لولبية ومغارات حلزونية، حجرات سرّية قد لا تتّصل بعضها ببعض، سلالم من حديد ومصاعد من خشب قديم، يتآكل عند الأطراف..

لكنّ هناك من يتساءل: لماذا احترقت القبّعة، بينما يدك اليمنى التي تحسّستْها لم تحترق؟

فاطمئنّوا أن سرّ ذلك قد يكمن في مكوّنات تلك المادّة الرغوية اللزجة، التي بخّها عليّ ذلك الغرغول الأخضر. وهو الأمر الذي يقتضي بالطبع إجراء بعض التحليلات الكيميائية، إلا أننا مضطرون لتأجيل ذلك الى حين العثور على معمل علميّ معتمد. فلنضع الفضول جانباً، ولنكتفي بالنصرة الصغيرة التي حقّقناها ههنا. فالحقيقة أن هذه القصّة كادت أن تتكسّر وتزول، كادت أن تذوب نهائياً تحت وطأة السريالية المفرطة، والأوزان المثقلة.. أقول (كادت)، لأنّك عندما ترى قبّعتك تتأجّج، عندما ترى قبّعتك تولّع وتحترق لهباً، عندها، عندها فقط، ستدرك خطورة الأمر، وجدّيّة الموقف لا محال..

لذا عزوت الأمر كلّه الى مهابة المبنى وألغازه، وكمّلت مشواري.

لمحتُ رجلاً عجوزاً يجرّ عربة متواضعة، عليها أصناف متنوعة من البوية والزيوت. وعرفته في الحال: هذا عم سحتوت، ماسح الأحذية، ومع ذلك فهو يقضي معظم الوقت في تلميع الأكر، وبيع الأسرار. أنت تمدّه بدرهم محترم، وهو يمدّك بمعلومتين مفيدتين. تعطيه مليماً أحمر، يعطيك قصة حمراء من اللي هي، وهكذا.. عم سحتوت ورغم اسمه طلق المحيّا، مدمج الخلق وإن كان هذا لا يمنع أنه أحياناً كثيرة يستقبلك بوجه كشر. أنا أعرف عم سحتوت منذ نعومة أظافري، ومنذ ذلك الوقت لم يفارق هذه الناصية جنب مكتبة هارولد وشنطن، يتكلّم ويرغي ويفتي، ويجمع خلالها ثروة معتبرة. لماذا لم يتقاعد، لماذا لم يترك العمل، فهذا سرّه الأبدي، لا يبيعه لأحد.

أتذكّر مرّة كنت أجلس فيها مع عم سحتوت، وأنا ابن الأربع سنين أو أكثر قليلاً. كان عنده طقم من الكراسي اعتاد أن يرصّها على شكل دائرة حول عربته عند الناصية. رغبتُ فجأة في العودة الى البيت، فأخذت معي الكرسي الذي كنت أجلس فيه. عندها، عاتبني عم سحتوت وهو يصيح:

- دي بتاعتك علشان تشيلها؟ دي بتاعت ربّ السما..

احترت فيما أقول، فتركت الكرسي بما عليه - ولم يكن عليه شيء - ولذتُ بالفرار. في هذا العمر المبكّر، لا يكون للطفل - ولداً كان أو بنت - معرفة عميقة بالألاعيب اللغوية. ما يفهمه هو الحركة، والوجه، الى جانب الصوت الخالي من أي تجريد أو التواء. لذا لم أفقه مراده، ولم أستوعب مقصوده، وكانت ردة فعلي الطبيعية أن أجري بعيداً، بينما أسمع عم سحتوت وقد صدرت عنه ضحكة رنّانة، اهتزّت لها العربة بما عليها.

المهمّ، ناديت على عم سحتوت وأنا ألوّح بيديّ الاثنتين، فقد ارتسمت على وجهه علامات الرحابة والاستقبال، وبدا كأنّه يتوقّع قدومي في مثل هذا الوقت. يجب أن أصارحكم أنني لم أزره منذ زمن طويل، وذلك لأكثر من سبب. أوّلاً وكما هو معروف، لقد قضيت الشهور الماضية القليلة في غرفة مغلقة الشبابيك مقفلة الأبواب، تفصلني عن العالم حيطان من خشب أو قرميد أو خرسان ونحو ذلك. ثانياً فلقد بلغني في الأونة الأخيرة بعض ما تناقلته الألسنة وتبادلته الأفواه، ومفاد ذلك أن هذا الرجل قد ضُبط مؤخّراً وهو يتاجر بالعقاقير غير المشروعة. ومع أنني لم أكن أصدّق هذه الإشاعات طبعاً، إلا أنني لم يكن ينقصني كلام الناس اذا ما أكثرت من التردّد عليه.

- عامل ايه يا عم سحتوت [ضمّني الى صدره وربت على كتفي]

- مليح والله، مليح ..

صمتّ لحظة، تردّدت مليّاً قبل أن أفاتحه في الموضوع الخطير:

- بقولك يا عم سحتوت.. ماذا تعرف عن السيّدة نادية تلك؟

- [اكفهرّ وجهه بغتة، إلا أنه سرعان ما استرجع هندامه فافترّ ثغره عن ابتسامة واسعة وهو يقول:] استريّح يابني، استريّح.

فجلست، ثم مدّني بسيجارة وبدأ يتحدّث..


[نواصل فيما بعد!]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق