12 مارس 2010

قراءات في الغرابة المقلقة (1)

قراءات في الغرابة المقلقة (1)

أعددتُ فنجاناً ثقيلاً من القهوة، ثم جلست عند مكتبي. بينما ارتمى هو على حجري.*

- كده ماينفعش، قلت، هذا الوضع يوجع ظهري.

جعلته يرقد فوق المكتب ، عسى أن أتناوله بكلتا يديّ.

- خلّينا نتفاهم، قلت.

أخرجت قلمي الأزرق الطويل، ورسمت دائرة كبيرة حول عنوانه: " الغرابة المقلقة " للعالم الكبير سيجموند فرويد. صفحاته من ورق رقيق جدا الى درجة أني خشيت تمزيقه أو تفتيته. لكنه نشوة الكافيين، الى جانب الهالة المروّعة المحيطة بالنصّ، ما دفعني الى مواصلة القراءة. أخذني بيدي وجرى يمرّرني على نقاطه وفراغاته، فسايرته وسايرني ونحن منسجمان متفقان، وجاريته وجاراني ونحن متداخلان متعانقان: هذا أنت على غير عادتك، قلت، لست أنت المتفذلك المتحذلق في "القلق والحضارة"، ولا أنت المخرّف المخبول في "الحداد والكآبة"، بل انك هين لين لا تؤذي أحداً.

وظللنا على هذه الحال لمسافة عدّة صفحات، الى أن مدّ يده للقاموس.

- " انت بتعمل ايه؟ " صرخت بامتعاض ممزوج باستياء وقرف.

نعم، هذا هو السؤال: ماذا أنت فاعل يا رجل؟ ماذا أنت فاعل؟ وما تراه يفعل، هذا الرجل، بفتحه هذا القاموس الوفير، اللسان الخطير، والتنقيب بالتالي في الاشتقاقات والمرادفات، الترجمات والخزعبلات، وذلك من أجل الوصول الى معنى كلمة واحدة ألا وهي: الغرابة المقلقة. ما تراه يفعل.

تبدّى لي فيما بعد، أن الدكتور فرويد إنما كان بصدد رصد بعض الأفكار، وحصد بعض الأشجار، ثم جمعها وإيداعها في خانة كبيرة من الأشياء المتعلّقة ببعضها البعض، تتداخل وتترابط وفقاً للتداعي الطبيعي للأحاسيس والمعاني. وما القاموس إلا أداة لإنجاز هذا الرصد وذاك الجمع، وهو الجامع المرجع لسياقات كثيرة وتوظيفات عديدة، يتبيّن للقارئ الشيء الكثير من الروابط الكامنة، والعرى الوثقى، ولو في محدودية الكتاب المطبوع. لكن جهاز جوجل للبحث لم يكن موجوداً أيامها، للأسف الشديد.

...

نهضتُ فجأة، فاهتزّت القهوة وانكبّت عليه بكل سخونتها، فصرخ صرخة ملتاعة.

...


* هذه المقالة مستقاة بترخيص من مشروع كتابي عرضته في صفّ الأستاذة الكبيرة كيتي ستيوارت. ولقد ترجمتها من اللغة الانجليزية لكن بإصرار جدي على مراعاة نقاط الاختلاف بين اللغتين العربية والانجليزية. أي انها ليست ترجمة بمعنى الكلمة إنما أقرب ما تكون الى تفسير معاني النصّ الأصلي. كما أن بعض الطلاب في الصفّ هنّأوني على الصفة الإبداعية الطاغية عليه، بينما حسدني البعض الآخر، أما البعض الآخر الآخر فقد أغمى عليهم فور تناولهم هذا النص فأخذهم الصرع وجعلوا يتقيّأون يصرخون لا يردعهم رادع.**

** ولقد أعجبني جدا هذا الأسلوب الخطابي المتبجّح الذي يتّخذه الشرح المرافق للنجيمة، اذ يسبغ على صوتي الشيء الكثير من السلطة الزائفة والقوة الملفّقة. ثم إنه شيء عجيب أن يطول الشرح الى هذه الدرجة، بصرف النظر عن مشاعر السأم والبضان الملازمة للقارئ كما للمؤلّف، فيكون الدرس المستفاد: لا تثق بالنجيمة! اذ كيدها عظيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق