27 مارس 2010

غرضه الهجاء: الخطوة الرابعة

غرضة الهجاء: الخطوة الرابعة

أرى نفسي غاطاً في سبات عميق، من فوق. أطارد الذبان بيد، وباليد الأخرى أصفّق في الهواء. كل هذا ممكن، بل مشروع، بعد سنين طويلة من التدرّب على الفنون البهلوانية، والشؤون الشقلباوية، قضيتها مرحاً في رعاية السرك الوطني. وغير الوطني.

أنسحب الى داخل طوايا السرير، أتململ متهتهاً، بصوت يكاد لا يُسمع: " قازوزة.. قازوزة.."

تتلمظ شفتيّ، وتلتوي. تصدر صوتاً أقرب ما يكون الى الفقاعة البكرة قبل ذوبانها، أو هبوط الفراشة على القدم إثر اقتلاع محتوم.

"قازوزة.. قازوزة.."

.. أو ربما كانت " فزّورة ".. أو حتى.. " قاذورة ". إنه شيء غامض، لا سبيل للتأكد منه، أو التفهّم بشأنه، سوى بالمزيد من التنصّت، وتدقيق السمع بعد إرهافه..

تشوشت أفكاري فجأة، اختلج جسمي وانتفض، إلا أن ذراع ما دفعتني بقوّة، وصفعتني، ووجدت يداً جافة تكتم فمي، وأخرى تهدّد عنقي بمدية حادة:

- ولا حركة! صاحت.

عندئذ، ورغم ارتباك الأحوال، والتباس المقام والمقال، إلا أني عرفت هذا الصوت، وهذه اليد، وهوية المتلصص المتجسس الذي اقتحم منزلي في الساعات المتأخرة من الليل. اذ معرفة مثل هذه الأمور، وإدراك مثل هذه الرموز، نوع من أنواع الفطنة التلقائية، أو الحكمة الكهربائية، تحيط بالمرء إحاطة عظيمة، فتهزّه يمنة ويسرة على غرار آلام المخاض، فيستقرّ فيه شيء من اليقين: سدّ ثلمة، وملؤ فراغ.

يبدو أن السيّدة نادية من ذلك الطراز من الفتوات الذين لا يراهنون على إخفاقات مرؤوسيهم، فلا يكلّفون الآخرين بالمهمات التنظيمية مهما صغر شأنها، بل يقومون بما يجب أن يتمّ بأنفسهم. فكان من المقبول جداً أن تبعث - بدلاً منها - أحد المرتزقة والمأجورين من أعضاء العصابة، لكنها لم تفعل. كان من المحتمل - حسب قوانين المافيا المعهودة، والمتفق عليها - أن تتملص من المسؤولية، متحججة بخطورة العملية، والأفخاخ المنصوبة في الطريق. ثم أن ترسل شخصاً آخر، عوضاً عنها. لكنها لم تفعل.

- أنا موجودة في كل مكان. أسكن في غياهب الطرقات، وظلمات البحور. أطفو على سطوح المجتمع، وأرقص على رؤوس الصفوة وعلية القوم. أنا بين فخذيك، وأنا أقرب اليك من قضيبك. أنا جرثومة فتاكة لن تتخلص مني، ولحسن حظك، لقد قررت ألا أتخلّص منك. ما زالت فيك بعض الفائدة.

أغمى علي في الحال: هل من الفزع، أو من ضربة قوية من يدها، لا أعرف، ولا أحسّ، فقط صداع رهيب يسيطر عليّ، يشلّ مفاصلي، لا شق ولا فصل بين النور والظلام، بل هما سديم واحد، يربض وراءه ذئب مقنّع. مداركي قد سرى فيها عكرٌ لذيذ، تفشّى وانتشر فتخثّر عند الفتحات: عقبات مجدّدة في الشرايين والعروق. يجب أن أتناول الترياق، وإلا ضعت..

حين أفقت الى صوابي، وجدت الشقة كما هي، باستثناء ظرف أحمر يرقد عند حافة السرير.

فتحته، وقرأت بصوت عال:

قرّبت الفنجان من شفتيّ المنفرجتين عن ابتسامة مكر وتواطؤ - تواطؤ مع ماذا؟ مع قوى الشرّ والفسق! - فضحكت. وضحكتي تلك جعلت في المشروب عاصفة صغيرة، تراقصت فيها الأضواء، تمازجت فتقلّبت، وفاضت بسخونتها الذكورية الطافحة عليّ وعلى بنطالي المحترق!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق